ثورات "البساطيل " وثورات الشعوب

متلازمة عشق الحذاء العسكري /انترنت
متلازمة عشق الحذاء العسكري /انترنت


(1)

يقول مثل فرنسي: " لباس الكاهن لا يجعل منك كاهنا "، أي المزيف من الصعب أن يسبغ على نفسه الأصالة. وذلك في مجالات شتى. تنطبق على فرد ما، أو جماعة، فينحصر ضررها على نطاق ضيق، ولا يتعداها على مستوى شعب بأكمله. لكن الخطورة الكبيرة عندما يعم الزيف على الشعب ويلحق به الحيف. وجرت العادة في البلاد العربية بشكل عام وسورية بشكل خاص، أن نستيقظ كل ذات صباح فنسمع الموسيقى العسكرية وبلاغ رقم واحد، هذا البلاغ يبلغنا بقيام "ثورة" مع أن الشوارع تخلو حتى من دومري، ولا نرى سوى بساطيل الجيش. وكان هذا المشهد يتكرر بحيث ترافقت كلمة ثورة مع كلمة بسطال ( بسطار).

لكن الثورات تعتبر حالات استثنائية ونادرة في حياة الشعوب وتاريخها. فوقوعها مرتبط بعوامل مختلفة تجعل من شعب ما، أو فئة ما، في لحظة حاسمة قابلا للتحرك للتعبير عن مظلمة سلما أو عنفا ضد السلطة الحاكمة، وربما تستغرق أزمانا طويلة تتراكم خلالها عوامل وقوعها لتصل في النهاية للانفجار. وليس كل انتفاضة، أو عصيان مدني ثورة، فهي بالضرورة يجب ان تؤدي إلى انقلاب جذري سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا. وإلا فإن أي تمرد من شأنه مواجهة السلطة لتحقيق مطلب ما، أو الاعتراض على سياسة ما، أو قرار مجحف وينتهي بالتوافق، أو القمع السريع مع احتفاظ السلطة بمكانتها لا يعتبر ثورة. فكلمة ثورة كما يقول كوندورسيه ( أحد العلماء التنويريين في الثورة الفرنسية والذي مات في سجنه مسموما) لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية. وكلمة ثورة في مفهومها الحالي لم تستخدم إلا مع نهايات القرن الثامن عشر مع اندلاع الثورة الفرنسية. وهي ظاهرة لا وجود لها قبل العصر الحديث. فكلمة ثورة ( révolution) استخدمت لأول مرة في علم الفلك عند الفلكي كوبرنيكوس لتشير إلى مدارات الافلاك السماوية التي تتحرك فيها الافلاك بانتظام دون تغيير أزليا. وقد استخدمت في المجال السياسي كون الحكام يتغيرون ولكن النظام يبقى هو نفسه دون تغيير كدوران الأفلاك. والشعوب التي تبحث عن الحرية بمواجهة السلطة إنما تريد أن تحقق أيضا في جوهرها عن المساواة وهذا مطلب لم يكن قبل اندلاع الثورة الفرنسية، مطلبا مطروحا فالمجتمع الطبقي ( نبلاء، رجال دين، العامة) الذي كان سائدا كان مألوفا في الذهنية الفردية وكل راض بقسمته ولو على مضض.

انتفاضات " العبيد"

نورد في هذا الحيز الضيق بعض الأمثلة، أو الأهم منها، ففي عام 135 ق.م تجمع ستون ألفا من العبيد في جزيرة صقلية بزعامة عبد من أصل سوري من مواليد أفاميا في منطقة حماة في سورية يدعى يونس وهبوا في مواجهة ملاك الأراضي يطالبون بحريتهم فاستولوا على معظم مدن صقلية وهزموا جيوش روما، وشكل يونس مملكة واتخذ لنفسه اسم " أنطيوخوس" لكنها لم تستمر طويلا فقد قضى عليها القنصل الروماني روبيليوس بعد ثلاث سنوات وانتهى يونس في السجن ومات فيه. لكن هذه الانتفاضة كانت مقدمة لانتفاضة أخرى أكثر عنفا، وأوسع انتشارا هي ثورة سبارتاكوس في العام 73 ق.م في تراقيا ( المنطقة القريبة من الجزء الأوربي في تركيا) الذي كان جنديا في الجيش الروماني وتعرض للاضطهاد والتعذيب في مستعمرات عبيد المصارعين. واستطاع القائد الروماني كراسوس من القضاء عليها بعد سنتين فقط بعمل وحشي، وعلق ستة ألاف من العبيد على أعواد المشانق.

ثورة الزنج

على غرار ما شهدته روما، قام علي بن محمد الملقب بصاحب الزنج ( يختلف المؤرخون حول نسبه ولكن يقال بأنه من أصل فارسي) في العام 869 بثورة على الاقطاعيين بعد أن جمع حوله الزنوج الذين كانوا يعملون باستصلاح الأراضي الزراعية في البصرة وأريافها ضمن ظروف سيئة للغاية مدعيا بأنه من أهل البيت ( المهدي) ليسبغ على نفسه الشرعية الدينية. وقد خاض الزنوج ( معظمهم جاء من سواحل إفريقيا الشرقية ) معارك ضارية ليحرروا أنفسهم من عمل السخرة وسوء الحالة المعيشية استنادا إلى وعود علي بن محمد، وقد استطاعوا السيطرة على مساحات واسعة من جنوب العراق واختاروا مدينة المختارة كعاصمة لهم. كان صاحب الزنج قد اعتنق عقيدة الخوارج ( أو ما يعرف بالأزارقة الذين مثلوا الحزب الجمهوري في الاسلام) فقالوا بوجوب اختيار الخليفة من بين الأكفاء بغض النظر عن النسب واللون، حتى أنهم أجازوا انتخاب " العبد " لمنصب الخلافة. وقد دامت لغاية عام 882 إلى أن أمر الخليفة المعتمد أخاه أحمد الموفق طلحة بالقضاء عليه وعلى حركته، فقتل في المعركة واستسلم أتباعه. كانت هذه الحركة رغم قوتها غير قابلة للاستمرار فهي لم تمتلك أسباب القوة لمواجهة جيوش الخلافة من جهة، ولم تقدم برنامجا اجتماعيا لإلغاء العبودية. لكنها كانت تمهيدا لحركات لاحقة اكثر خطورة كحركة القرامطة ( تنتمي هذه الحركة إلى النزعات المادية في الإسلام كما وصفها الكاتب اللبناني حسين مروة).

معظم الحركات المناهضة للسلطة في الإسلام كانت ترتكز على مفاهيم دينية ولم تصل احداها إلى الإطاحة بالسلطة أي الخلافة التي سقطت على يد المغول بزعامة هولاكو التتري الذي اجتاح بغداد في العالم 1258 و سجن أخر خلفاء العباسيين المستعصم بالله وأماته جوعا في السجن يحيط به أوانيه الذهبية الفارغة.

إن انتفاضة الفقراء ضد السلطة تنطوي دائما على زخم في القوة لأنها تقتات من ضرورة الحياة البيولوجية "فتمرد المعدة هو الأسوأ" كما يقول فرانسيس بيكون. أو كما يقول القديس جوست:" البؤساء هم قوة الأرض". الجوعى يتمردون ولكن نادرا ما يصلون إلى مبتغاهم في الانتصار على جلاديهم لأن جل ما يصبون إليه هو ملء معدتهم إلا إذا كان من ورائهم من يخطط إلى أبعد من ذلك وله برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالثورات لا يمكن أن تندلع وتنجح إلا إذا كان هناك عدد كاف من الرجال المهيئين لإسقاط السلطة واستلام الحكم. ويقول رجل الثورة الفرنسي ميرابو:" إن عشرة رجال يعملون معا يمكنهم أن يجعلوا مئة ألف ترتعد فرائصهم وهم متفرقون ".

(يتبع)

رياض معسعس