عن الكاتبة أمل صديق عفيفي، وكل أم فقدت ابنها، ولم تفقد قلبها، هذه الحكاية ليست فقط حكاية مصرية، ولا فقط عن الأمومة أو الحداد. بل تمتد رمزيًّا إلى كل أم مفجوعة، خاصة الأمهات السوريات اللواتي لم يحظين حتى بوداع.
ليس من السهل أن نكتب عن الفقد. الفقد لا يُحكى، لأنه لا ينتهي. لكنه أحيانًا، كما في كتاب "بيت آمن: حكاية أربع سنوات نقلتني من الألم إلى الأمل" للكاتبة أمل صديق عفيفي، يتحول إلى فعل حب ممتد، لا نهاية له.
تفقد الكاتبة ابنتها "عاليا"، فجأة، على سرير المستشفى، بعد أيام من الدعاء والرجاء والتشبث بالأمل. في لحظة، ينهار العالم كله. لا يعود للزمن معنى، ولا للغة طعم. تصبح الحياة شاشة باهتة تمرّ من حولها، وهي لا تعرف أين تبدأ أو تنتهي.
لكن المختلف في هذه الحكاية، هو ما اختارته الكاتبة بعد الرحيل. لم تغلق أبوابها، ولم تحبس دموعها، ولم تستسلم للغرق في الفراغ. بل صنعت من الحزن بابًا، ومن دموعها خريطة، ومن الحب الذي لم يعد له وجهة... مشروع حياة.
"نحن لا ننقذ من رحلوا، فهم ذهبوا إلى حيث الحقيقة والراحة. لكننا نُحيي ذكراهم، نستكمل رسالتهم، نفعل ما لم يسعفهم الوقت لفعله، ونداوي آلام من حولنا، ومن خلالهم... نداوي آلامنا."
هكذا وُلد "بيت عاليا"، البيت الذي حمل اسم الابنة، لكنه احتوى فتيات أخريات، بلا أهل، بلا دعم، بلا ملامح لمستقبل آمن. بيت صغير، لكنه مليء بالدفيء. مشروع كفالة بنات يتيمات، لا لمرة، بل على مدار سنوات، بالرعاية الكاملة، بالحب والمرافقة والاحتضان.
الكاتبة لم تكتب عن فكرة خيرية باردة، بل سردت تفاصيل الرحلة كاملة: التردد، الخوف، الشعور بالذنب، مواجهة البيروقراطية، وتحديات المجتمع. لم تروِ فقط كيف بدأت المشروع، بل كيف كانت تعيد ترميم روحها مع كل خطوة. كيف كانت كل طفلة تأخذها إلى عالم جديد، فيه قدر من العزاء، وقدر من الرسالة.
هذه الحكاية ليست فقط حكاية مصرية، ولا فقط عن الأمومة أو الحداد. بل تمتد رمزيًّا إلى كل أم مفجوعة، خاصة الأمهات السوريات اللواتي لم يحظين حتى بوداع.
أولئك اللواتي فُقد أبناؤهن في السجون والمعتقلات، دون أثر، دون جثمان، دون حتى يقين بالموت. من يعشن في انتظارات لا تنتهي، في وجع لا يُقال، وفي سؤال دائم: هل ما زال هناك معنى للحياة؟
"بيت آمن" يقدم جوابًا هادئًا، لا يرفع الصوت، ولا يدّعي الحكمة، لكنه يهمس:
نعم، هناك معنى… حين نصنعه.
حين نحمل الحب المتبقي في قلوبنا، ونقدمه لمن يحتاجه.
حين نجعل من غياب ابنٍ، حضنًا لطفل آخر.
حين نزرع، بدلًا من البكاء على الأطلال، بذورًا لحياة لا تزال قابلة للدهشة.
أمل صديق عفيفي لا تنفي الألم، بل تحكي عنه بصدق مذهل. تحكي عن الإنكار، عن الغضب، عن التساؤلات اللاهثة: "هل يكرهني الله؟ هل كان يمكن أن أنقذها؟ هل ما حدث عدل؟" ثم تعود لتقول، إن الألم لن يزول، لكنه يصبح محتملًا، حين نعيد تشكيله.
"الألم لا يذهب، لكن بوسعنا أن نتصالح معه. الفعل الطيب وحده هو ما يمكننا من التعايش مع الفقدان."
إنه درس عظيم، تكتبه الكاتبة بلا تنظير. درس في أن الفقد لا يجب أن يكون موتًا ثانيًا للأحياء. بل يمكن أن يكون ولادة ثانية لنا، حين نختار أن نكمل، لا بالرغم من الفقد، بل من خلاله.
في "بيت عاليا"، نجد الأمل ليس في أن الحياة تعود كما كانت، بل في أنها يمكن أن تبدأ من جديد، بشكل آخر.
في ضحكة بنت يتيمة، في غرفة جديدة، في كتاب مصور، في طبق طعام يُعد بمحبة.
"بيت آمن" ليس قصة انتصار على الحزن، بل قصة مهادنة. اتفاق بين القلب والواقع على أن الحزن باقٍ، لكن الحياة ممكنة، بل ضرورية.
وأن ما لا نستطيع تغييره، يمكننا على الأقل أن نحوله إلى شيء نافع، حتى لو كان بسيطًا، حتى لو كان لطفًا عابرًا في حياة طفل.
في النهاية، هذا الكتاب لا يقدم وصفة، ولا يزعم الخلاص، لكنه يفتح لنا بابًا. ويقول لنا جميعًا:
إذا كنا قد فقدنا من نحب، فربما حان الوقت لنحب من بقي.
* كتاب "بيت أمن" للكاتبة المصرية أمل صديق عفيفي صدر عن الدار المصرية اللبنانية ٢٠٢٥