يلقي كتاب «شهداء بلا قضية... مقاتلون صغار على جبهات كبيرة»، الضوء على ملف ظهر مع تغيير الخريطة الجيوسياسية في سوريا في السنوات العشر الأخيرة، وارتفاع حدة المواجهات العسكرية، حيث كل طرف يحتاج إلى مقاتلين يغذّون المعارك القائمة مع الأطراف الأخرى، ما خلق ظاهرة تجنيد الأطفال بمستويات مختلفة، بعضها يتم بشكل عشوائي كما في مناطق النظام والفصائل التابعة لتركيا، وبعضها الآخر يتم بصورة شديدة التنظيم، كما تبين تجربة حزب العمال الكردستاني في شمال شرقي سوريا.
يستكمل الباحث والحقوقي حسين جلبي في هذه الدراسة ما بدأه سابقاً من ملفات كردية تناول فيها شؤون حساسة تخص المجتمع الكردي في سوريا، والمتغيرات التي طرأت عليه في السنوات العشر الأخيرة. من ذلك كتابه الأول قبل خمس سنوات بعنوان: «روجآفا، خديعة الأسد الكبرى»، لكنه في كتابه الثالث هذا يسرد وقائع حول خطف وتغييب وتجنيد وقتل وتجهيل الأطفال الكُرد وغسل أدمغتهم.
يقول جلبي إن حزب العمال الكردستاني (منشؤه تركيا في الأساس)، أراد من خلال انتزاع الأطفال مبكراً من ذويهم ونقلهم قبل تشكيل وعيهم إلى معاقله النائية في جبال قنديل (شمال العراق)، صنع مقاتله الخاص الذي لا يعرف أسرة سوى الحزب، ولا تزيد معارفه على ما يتم تلقينه إياه من آيديولوجيا، ولا يتجاوز عالمه حدود تلك الجبال، بحيث يصبح أداة طيّعة تنفذ كل ما يُطلب منه. هناك في كهوف جبل قنديل، يتم تغيير اسم الطفل ومنحه اسماً آخر جديداً له دلالة ثورية، وتصبح عائلة المجند الجديدة، زعيمه وكوادره، ما يضع الطفل على طريق اللاعودة ويقطع صلته مع عائلته الأصلية.
يستشهد الكاتب بتجارب عديدة قصّها عليه آباء وأمهات. من ذلك أن أباً مفجوعاً بخطف الحزب لابنته وتجنيدها في صفوفه، رأى صدفة صورتها مع رفيقاتها المقاتلات منشورة على أحد المواقع بعد أن حُرم تماماً من التواصل معها. يقول الأب: «حتى في الحروب العالمية، كان يتم تبادل الرسائل بين المقاتلين وذويهم كي تطمئن العوائل على أبنائها». في حادثة أخرى أضرم أب كردي سوري، النار في جسده أمام مقر حزب الاتحاد الديمقراطي في مدينة السليمانية شمال العراق، في يوليو (تموز) 2015، بعد طرده من مكتب الحزب عندما جاء يطلب الكشف عن مصير ابنه. الشهادات كثيرة في الكتاب وتكون أكثر إيلاماً عندما يقرأ الأهالي نعي أبنائهم المجندين الصغار، نتيجة وضع السلاح في أيديهم ودفعهم إلى جبهات القتال.
عشر سنوات تمت فيها إثارة هذه القضية في المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية، مثل «هيومن رايتس ووتش» والشبكة السورية، التي أثارت موضوع خطف الأطفال المنظم من الحزب وتحويلهم إلى مقاتلين صغار تنقطع صلتهم بأهاليهم. لكنّ هذا الوضع لا يزال مستمراً ومحكوماً في أغلب الأحيان بردّ الحزب على الانتقادات، بالقول إن الطفل (المراهق الذي لم يُتم السادسة عشرة من عمره) جاء بكامل إرادته ورغبته.
يكشف المؤلف هذه المآسي وما يخص شؤون المجتمع الكردي الحساسة، بروح الباحث المدقق الدؤوب، كما يستقصي ما يُكتب عنها من قصص ومشاهد في فضاء الميديا، ومواقع التواصل الاجتماعي بحثاً عن حقيقة ما جرى وما يجري، في واقع يبدو أنه سيظل ملبداً بالغيوم والاضطرابات السياسية، وصراعات القوى لسنوات عديدة.
* الشرق الأوسط