لا تكفي هذه السطور أن أفي إبراهيم الأسود حقَّه، الشّاعر الذي أتعب الشّعر، في زمنٍ كثر فيه الشعراء، وقلّ الشعر، مداده ذو الغصّة لا ينضب، ومعينه يروي الصّادي، فلا يغور!
من "هجين" تلك الغريبة على ضفاف الفرات، في دير الزّور، ولد إبراهيم الأسود، عام 1952، وولدت معه مرحلةً جديدة في تاريخ الشّعر، فطحلٌ رمته السّماء على أرضٍ يباس، فأينعت، وقدرٌ أبى إلا أن يكون شاعراً فكان، يستنهض بشعره عزيمةَ أمةٍ واهنة، ويتقدّم جماعةَ الأدب مستلاً سيفاً من كلمات، فيُردي، ويصفُ فيصدق، ويهجو فيقتل، شعره مرآة الرّوح، تعكس روعةَ اللغة، وجمالية البديع، يستفيضُ فيُبهر، ويُوجِزُ فيُذهِل، يتفننُ فيُطرب، لا يلحقه ذو علم، ولا يُجاريه أديب، إنّه فارس الأبجدية الذي لا يُشقُ له غبار.
يقول "الأسود":
صخبت بناتك والورى هُجّاد ُ
ما هذه الضوضاء، يا بغدادُ
من أيّ صوبٍ أم لأيّةِ غايةٍ
هذا العديدُ وذلك الإعداد!
كيفَ استقام لهم؟ وكيف تحالفوا
ورموْك عن قوسٍ وهم أضداد
يا عهركم عرباً وغرباً يا سواد
وجوهكم إذ كُلهم قوّاد
سقطت بغداد وبقي شعر إبراهيم الأسود راسخاً في الذاكرة، شعره الذي يشبه تلك المدن الضّاربة في جذور التاريخ، لا يهزها عابر، ولا يشينها محتل.
أتعبتهُ الغربة، فكانَ نهراً، وأرهقه اللجوء فكان حُرّاً، صوتهُ الثائر لا يخبو، وقولة الحق كلّفته الكثير، يا ليتها فرقت أعضائي الدنيا، ولم تكُ فرقت أحبابي!
حينما يُعرّف عن نفسه " بإسهاب" يقول: درستُ حتى الرابع الابتدائي، ثمّ في معهدٍ شرعيّ، فتلقّفني الشعرُ، فكنتُ أنا!
للشّاعر، أحد عشرَ كوكباً، فكان يُوسف الشعر، أحد عشر ديواناً مطبوعاً، ورواية واحدة، ودواوين قيد الطبع.
يعيش أبوخليل " عضو اتحاد الكتّاب العرب " سابقاً، في "شانلي أورفا" التركية، لاجئاً، بعد سنوات طويلة قضّاها في دولة الكويت، فعرفه أدباؤها، وقدّروه حقّ قدره، عاشَ غريباً وفي داخله فُراتاً لا حدود له، يحمل في ذاكرته المتعبة قصائداً كانت وستكون مداداً لا ينفَد..
قصيدة للشاعر:
إن شئتَ جوداً بالدواء لدائي فابسِم فإن لمى الشفاهِ شفائي
وانقع صعيد النفس من نَفَسٍ شَذٍ واسمح لها بتنفس الصعداءِ
يا فاتِني إمّا وصالُك فاتَني فأْذَنْ لطيفكَ في الكرى بلقائي
حُزني على حُزني فديتك واغتنم مني الثنا واحفظ عليَّ ذَمائي
لو لم تكن في القلب كنتُ عرضتُهُ لمنظماتِ تجارةِ الأعضاءِ
بي ضجةٌ من وقع صمتٍ واقعٍ بي، مُشعِلٍ ما بي من الضوضاءِ
متصدعٌ رأسي بيأسي تَلغَطُ الـ ـأشياءُ بي من صامتٍ أو صاءِ
صورٌ وأصواتٌ يُواتي السمعَ مأ تاها الخفيُّ ولا يراها الرائي
ولقد رأيتُ وليس بي سِنةٌ ولا ألممتُ منذ سنين بالصهباءِ
مَلَكَيْنِ كُلٌّ بالنُّضار مؤجَّجٌ ومدججٌ بالكُحلِ والحِنّاءِ
مَلَكَيْنِ لولا خلتُ أنَّ اللهَ لم يخلق ملائكةً ذوي أثداءِ
لم أدرِ هل من ماءِ مَدْيَنَ عَطَّتا أم حَطَّتا من معقِلِ الجوزاءِ
جاءت إليَّ وقد رأتني جالساً إحداهُما تمشي على استحياءِ
حسناءُ تَغرَقُ حين تَعرَقُ هل رأى أحَدٌ تَلَهُّبَ جمرةٍ في ماءِ
قالت أبي يدعوكَ فاستنفَرْتُ آمالي العراضِ كعادةِ الشعراءِ
وقَبرتُ يأسي رغم أنَّ متاعب الــ ــمنفى أفادت عن وفاةِ رجائي
وذهبت أهذي والمَدى مستعذِبٌ ما لا يعي من هينماتِ غِنائي
وكأنني غَيْلانُ شَيَّعَ زفرةً مَيٌّ بحزوى وهو بالدهناءِ
"آ أنتِ ما بين النقا وجلاجلٍ ضيعتِني يا ظبية الوعساءِ"
لو كنتِ من قبل الضياع أوَيْتِ لي ما كان بي ما كان من لأواءِ
فإذا بدا لكِ فيَّ من ندمٍ على إشعالِ نارِ الوجدِ في أحشائي
فضعي بَنانَكِ فوق صدري إنه لا شيء يُطفي النارَ مثلُ الماءِ
وَرَنَتْ فحدَّثني فتورُ لِحاظِها عن بدعةِ الإحياءِ بالإيحاءِ
وعلمتُ أنَّ، وقد يَسُنُّ العشقُ تفـ ـسيراً ولم يتسَنَّ للعلماءِ
معنى ألم نجعل له عينينِ قد يرمي إلى المرئيِّ ليس الرائي
ومفادُهُ -والله أعلمُ- جاءَ محــ ــمولاً على التحذيرِ لا الإغراءِ
فاحذر مُصابَكَ طعنةً نجلاءَ تُو رِدُكَ الردى من أعينٍ نَجلاءِ
فَمُلاعِبٌ حَوّاءَ سوف يَبيدُ أو يُبدي مهارةَ لاعبٍ حَوّاءِ
وفهمتُ لأياً أن حلميَ تائهٌ وعلى سبيلٍ لم يكن بسواءِ
ونأت ولم ينأَ الصدى عن خاطري والطيفُ رغم تخاطر الأنواءِ
وبقيت ما إلا التأسي وحدهُ ورؤىً تواسي وحدتي برياءِ
وقصائدٌ عُليا المقاصدِ صغتُها عُليا الجمالِ شديدةَ الإغراءِ
لو لم يَلُحْ للقارئ اسمي فوقها وبها شَجايَ وتحتها إمضائي
نُسبت إلى ابن أبي ربيعة أو إلى الحسن بن هانئ أو إلى الوأواءِ
ألزمتُها لِبْسَ الحجاب تَعَفُّفاً حتى عَنَسْنَ لِقِلَّةِ الأكفاءِ
أعليتُ قَدْرَ بناتِ أفكاري ولم أنظر إلى البيضاءِ والصفراءِ
ولوَ انني أرخصتُهُنَّ لكنتُ قد عَرَّضتُ عِرضَ الشِّعر للفحشاءِ