دمشق – جيهان خلف
في بلد أنهكته الحرب وأثقلته تبعات النزاع، لا تزال الطفولة السورية تبحث عن فسحة أمان، عن كتاب يُدهش، وقصة تُلهم، وصورة تُعيد ترتيب الأمل في العيون الصغيرة. ومن هذا الاحتياج العميق، انطلقت مجلة "٨ كانون للأطفال" كأول مجلة تصدر في سورية بعد التحرير، بمبادرة أهلية تطوعية، تحمل رؤية ثقافية وتربوية لإنقاذ جيل المستقبل عبر القراءة.
من الحبر تبدأ الحكاية
بعد أعوام طويلة من التهجير والانقطاع عن الحياة المدرسية والثقافية المنتظمة، يعيش الطفل السوري اليوم تحدياً مضاعفاً: استعادة طفولته وبناء مستقبله في آنٍ معاً.
مجلة "٨ كانون"، التي صدرت حديثًا، وُلدت من هذا التحدي بالذات، محاولةً أن تكون منبرًا بسيطًا وفعّالًا يدمج المتعة بالمعرفة، ويمنح الطفل السوري نافذة يتأمل بها نفسه والعالم من حوله.
تستهدف المجلة الأطفال بين 6 و13 عاماً، وتتنوع موضوعاتها بين القصص التربوية، والأنشطة الترفيهية، والمعلومات العلمية المبسطة، والرسوم الملوّنة، بإشراف فريق متخصص من التربويين والاختصاصيين النفسيين والرسامين، ضمن هيكل تحريري يقوده الأستاذ عمر المشعان مدير التحرير والمشرف العام، ورئيسة التحرير الأستاذة ولاء الدرويش.
القراءة: ليست ترفًا بل أداة شفاء
في المجتمعات الخارجة من الحروب، تُعد القراءة وسيلة مركزية لإعادة التوازن النفسي للأطفال، وتساعدهم على التعبير عن مشاعرهم وفهم ما مرّوا به بطريقة آمنة وغير مباشرة.
يقول الأستاذ عمر المشعان:
> "في كل قصة نكتبها، نحاول أن نضع بذرة شفاء. نحن لا نقدم مجرد محتوى ترفيهي، بل نحاول ترميم العلاقة بين الطفل وذاته، والطفل ومجتمعه، والطفل والعالم."
هذا الإدراك التربوي العميق لأثر القراءة، ينعكس في صفحات المجلة التي توازن بين المتعة والمضمون، وتُبنى بعناية لغوية وفنية تليق بالأطفال الذين لطالما حُرموا من محتوى يُشبههم ويُخاطبهم من مكان قريب.
مجلة مجانية... ووطنية بروح تطوعية
ما يميّز تجربة "٨ كانون" أنها نتاج جهود تطوعية بالكامل، إذ عمل الفريق المؤسس على تمويل طباعة العدد الأول بجهود شخصية، وحرص على توزيعه مجانًا في عدد من المحافظات السورية، بما فيها دمشق، دير الزور، اللاذقية، بانياس، إدلب، حلب، السويداء، حماة، وغيرها، بالتعاون مع مؤسسات مثل "سلام للتنمية"، وفرق شبابية تطوعية كـ "أثرنا سوري" و"موج".
وتتوفر المجلة أيضًا بصيغة إلكترونية (PDF) عبر الموقع الرسمي، في محاولة لجعلها في متناول الأطفال داخل البلاد وخارجها، خاصة أولئك الذين تعيقهم ظروف النزوح أو الفقر أو الانقطاع عن المدارس.
صدى واسع لدى الأطفال والأهالي
لاقى العدد الأول من المجلة ترحيبًا كبيرًا من الأطفال والأهالي في مختلف المناطق السورية.
الآباء عبّروا عن امتنانهم لعودة المحتوى الطفولي التربوي إلى حياتهم اليومية، بعد سنوات من الغياب القسري.
أما الأطفال، فكان تفاعلهم أكثر من مجرد قراءة، إذ أرسل العديد منهم رسوماتهم ورسائلهم الخاصة إلى المجلة، مؤكدين أنهم وجدوها "قريبة"، "مُفرِحة"، و"تشبههم".
إحدى الأمهات في ريف دمشق قالت:
> "حين عاد ابني من المدرسة وهو يحمل المجلة، جلس يقرأها لساعة كاملة دون أن ينتبه لما حوله... كانت هذه المرة الأولى منذ زمن أراه يندمج مع كتاب بكل هذا الشغف."
من أجل طفولة متوازنة
لا تدّعي مجلة "٨ كانون" أنها ستحل مشاكل الطفولة السورية، لكنها تقدم مقاربة حقيقية وواقعية لأثر الكلمة الموجَّهة بعناية، ولأهمية استثمار الثقافة في بناء الإنسان.
ففي عالم تمزّقت فيه كتب الأطفال، وتلاشت المساحات الآمنة للخيال، تبدو هذه المجلة وكأنها تقول: "لم ننتهِ بعد. لا زال للطفل في سورية مكان يليق به."
> في كل صفحة تُقرأ، ثمة جسر يُبنى بين الألم والأمل. و"٨ كانون" ليست إلا أول خطوة في هذا الجسر الطويل.