خلال زيارته المشؤومة إلى واشنطن حقق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما عجز عن تحقيقه العديد من الرؤساء الأمريكيين، وآخرهم دونالد ترامب وجو بايدن: توحيد المشرِّعين.
خلال السنوات الثماني الأخيرة بلغ الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة درجة بدا معها من ضروب المستحيل التقاؤهما في مكان واحد والاتفاق على كل ذلك التصفيق الجماعي الذي خصصوه لمجرم الحرب الإسرائيلي.
الصادم في الأمر أن نتنياهو لم يحقق هذه النتيجة (الهائلة بالنسبة له) على خلفية إنجاز تاريخي أو اختراق سياسي واستراتيجي استثنائي، مثل تحقيق سلام قوي دائم مع الفلسطينيين، أو تطبيع مع دولة عربية كبرى مثل السعودية. بل حقق نتيجته تلك بصفته المشرف الشخصي على الإبادة الجماعية التي تشهدها غزة. وحقق نتيجته وهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية.. وهو فاشل سياسيا على الصعيد الداخلي وكان على بُعد خطوة من السجن لولا السابع من أكتوبر.
لقد صفّق أعضاء الكونغرس لنتنياهو وهو كل هذا. وتعلّقوا بأذياله وهم يدركون أنه كل هذا وأكثر، وأنه لن يحظى بذلك الاستقبال الاستثنائي حتى في الكنيسيت الإسرائيلي لو حاول ذلك.
ما حصل مساء الأربعاء في مبنى الكابيتول يمثل في صورته الصغرى تشجيعا صريحا لنتنياهو على الاستمرار في حرب الإبادة التي بدأها قبل عشرة أشهر والدوس على كل القوانين الدولية
الصادم في الأمر كذلك أن الذين صفقوا في ذلك المساء البائس في تلك الجلسة الأكثر بؤسا وأفرطوا في إظهار الابتهاج تجرّدوا من إنسانيتهم ومن عقلانيتهم. وأبانوا عن انقطاع مذهل عن الدنيا وما فيها وكأنهم كائنات غريبة تعيش في كوكب آخر. لا يمكن أن تحتفظ بإنسانيتك ومروءتك ثم تصفق بحفاوة لشخص مسؤول عن قتل آلاف الأطفال والنساء، وبإصدار الأوامر لقصف المستشفيات والمدارس وقوافل الإغاثة والمساكن على رأس ساكنيها بقنابل زنة الواحدة منها ألف كيلوغرام، وبتجريف الحقول والمزارع وقطع الماء والكهرباء والمعونات الغذائية على أناس محاصرين في رقعة جغرافية تصنَّف بأنها الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم.
بعد كل ذلك التصفيق والتملق لنتنياهو يصبح فلاديمير بوتين جديرا بأن يُحمل فوق الأكتاف والطواف به في شوارع واشنطن وكبريات العواصم الغربية.
لكن ما ليس صادما أن نتنياهو في واقع الأمر لم يأت إلى واشنطن ضيفا بدعوة من الكونغرس، ولا من البيت الأبيض. الحقيقة هي أن المجتمع السياسي والتشريعي الأمريكي هو الذي حل ضيفا على نتنياهو في واشنطن، وليس العكس. لقد ذهب نتنياهو إلى الولايات المتحدة برغبة وقرار من «اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة» (آيباك). هي التي رأت أنه يختنق داخليا ودوليا ولا بد من فك الخناق عنه بإحضاره إلى أكبر عواصم العالم. ثم طُلب من المشرعين الأمريكيين الحضور والتصفيق بحفاوة. ومن المؤكد أن «آيباك» لا تجد صعوبة كبيرة في استدعاء المشرعين إلى حفل نتنياهو والتصفيق له بين كل كذبة وأخرى من أكاذيبه الكثيرة وكل إهانة وأخرى من إهاناته الكثيرة لكل من يختلفون معه حتى الأمريكيين منهم. فواشنطن أكبر عواصم العالم لكنها أيضا أكثرها استسلاما لـ»آيباك».
ابتهج المشرّعون بالزيارة وانتظروها على أحر من جمر. وعندما حلَّ عليهم ضيفهم كان لا بد أن يخصّوه بكل ذلك الترحاب لأن المعادلة تشبه زواج مصلحة، هو بحاجة إليهم لفك الخناق عنه واكتساب شرعية جديدة، وهم بحاجة إليه مطية للحفاظ على رضا «آيباك» وتمويلها على بُعد ثلاثة أشهر من الانتخابات.
لكن بذلك الاستقبال الحار الذي خصصوه لرجل وصل إليهم للتو من غرفة عمليات تقود أعمال إبادة، ويداه تقطران بدماء أطفال غزة ونسائها، يعلن المشرّعون الأمريكيون الذين حضروا حفلة الدماء أنهم أسوأ منه لأن المحرّض على القتل أخطر من القاتل ذاته.
بذلك التصفيق أثبتوا أنهم في خدمة إسرائيل أكثر مما هم في خدمة بلدهم الولايات المتحدة. وأن لا شيء أو أحد غير إسرائيل يهمهم، وأثبتوا للعالم أنهم في خدمة إسرائيل وقادتها أكثر مما هم في خدمة الولايات المتحدة وشعبها. أثبتوا أيضا أنهم خطر على السلم العالمي والاستقرار الدولي.
لقد كان سباق الكثير من المشرّعين لإعلان الدعم والولاء لإسرائيل وتهديد خصومها في بداية الحرب على غزة تقليديا من النوع الذي ألفه العالم. لكنه سرعان ما بدأ يأخذ مناحي أخرى عندما تأكد لهم أن إسرائيل تغرق في مستنقع غزة وأن تركها لمصيرها يعني بداية نهايتها. لكن ما حصل مساء الأربعاء في مبنى الكابيتول يمثل في صورته الصغرى تشجيعا صريحا لنتنياهو على الاستمرار في حرب الإبادة التي بدأها قبل عشرة أشهر والدوس على كل القوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة ومؤسساتها. ويمثل في صورته الكبرى خطوة أشد خطورة في مسار القتل ونشر الدمار والفوضى في منطقة برمّـتها ومن ورائها العالم.
من الصعب تصديق أن المشرّعين الأمريكيين لا يشاهدون استياء العالم من إسرائيل، وانحيازه لعدالة قضية سكان غزة، لكن العقدة تكمن في الجهة الممسكة بدفتر الشيكات والتي تفرض عليهم ادعاء أن الأمر يتعلق بمعاداة إسرائيل واليهود وليس الانتصار لسكان غزة. لهذا يتعمدون الخلط بين معاداة السامية ومعارضة جرائم إسرائيل، لأنها التجارة الوحيدة التي بقيت مربحة لهم ولإسرائيل.
ضمن هذه التبعية العمياء يجب وضع اتهام نتنياهو المتظاهرين ضد زيارته خارج مبنى الكونغرس بأنهم «أغبياء تحت تصرف إيران». وضمن تلك التبعية العمياء يجب وضع التصفيق الصادم لمجرم الحرب وهو يتلفظ بتلك التهمة الغبية بحث متظاهرين مسالمين منعتهم إنسانيتهم من الصمت وبينهم يهود كثيرون وأمريكيون من مختلف الأديان.
يُعرف عن الولايات المتحدة أنها من أكثر الدول حرصا على أمن وسلامة شعوبها، لكن عندما يتلفظ نتنياهو بكل تلك البذاءات والأكاذيب بحق مواطنين أمريكيين، يصفق مشرّعون ومسؤولون أمريكيون كأن الأمر لا يعنيهم.
وهو فعلا لا يعنيهم. تعنيهم فقط الماكينة الممسكة بالشيكات وحساباتها عشية انتخابات حاسمة.
المصدر : القدس العربي