لا تشكل التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بخصوص مستقبل العلاقات بين حكومته وسلطة بشار الأسد أي جديد يستوقف، بقدر ما تمثل إعلاناً يلقي الضوء على نتائج المباحثات التي بدأت رسمياً مع انطلاقة مفاوضات مسار أستانا في كانون الثاني/يناير 2017. وهي جمعت بين كل من تركيا وروسيا وإيران؛ بالإضافة إلى المبعوث الأممي الدولي الخاص بالملف السوري، وممثلين عن سلطة بشار، وممثلين عن المعارضة الرسمية التي لم تعلن بجرأة عن مشاركتها العلنية في المسار المشار إليه، هذا رغم أن عدداً من المشاركين تبوأوا لاحقاً مراكز قيادية في المعارضة المذكورة بجناحيها السياسي والعسكري.
ثم عُقدت لقاءات بين الجانبين التركي والأسدي بإشراف روسي في موسكو. وتوالت الاتصالات العلنية والسرية بين أجهزة الجانبين الأمنية؛ وكانت التصريحات المستمرة من الجانب التركي المطالبة بضرورة توصل سلطة بشار والمعارضة الرسمية إلى توافقات بشأن التعامل مع تحديات الإرهاب الذي يتشخص لدى الطرف التركي في واجهات حزب العمال الكردستاني السورية. بينما هناك صمت كامل تجاه سلطة الأمر الواقع التي فرضها الجولاني تحت مسمى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في إدلب، (هذا رغم استمرارية الاحتجاجات الشعبية في المناطقة الخاضعة لتلك السلطة، وهي الاحتجاجات التي تطالب بإنهاء سلطة الجولاني، ووضع حد لتجاوزات أجهزته الأمنية).
ومن المعروف أن للسلطة المعنية حكومتها الخاصة بها (حكومة الإنقاذ) خارج نطاق الحكومة المؤقتة التي تعد رسمياً حكومة المعارضة الرسمية المنبثقة عن الائتلاف؛ كما تمتلك السلطة عينها ميليشياتها الخاصة بها غير المنضوية تحت لواء ما يسمى بـ «الجيش الوطني» الذي يعد من الناحية الشكلية خاضعاً للائتلاف من خلال الحكومة المؤقتة؛ بينما في الواقع العملي يخضع عملياً لتوجيهات وتعليمات وأوامر الجانب التركي الذي يزوده بالمال والسلاح والمعدات.
وبعد سلسلة من اللقاءات السرية في عدد من الأماكن، وبتسهيل من أطراف إقليمية ودولية، عربية (العراق مثلاً) وغير عربية (منها روسيا)؛ جاء لقاء حميميم العسكري الأمني الثلاثي بين روسيا وتركيا وسلطة بشار، الأمر الذي أعطى إشارة قوية بقرب الوصول إلى مرحلة الإعلان الرسمي عن لقاء قمة قريب بين كل من رجب طيب اردوغان وبشار الأسد. وهي القمة التي ستكون على الأغلب برعاية روسية، وربما بمشاركة عراقية، الأمر الذي يوحي بوجود رضى ضمني أمريكي، خاصة بعد تصريحات فيصل المقداد ورئيسه بشار الأسد الخاصة بامكانية عقد اللقاء المرتقب إذا ما أكدت تركيا استعدادها للانسحاب من الأراضي السورية، ومن ثم تصريحات الرئيس التركي الذي أعلن عن استعداد بلاده للعودة إلى العلاقات الودية بين الطرفين التي كانت في السنوات الأولى من حكم بشار الأسد.
فقد أكد الرئيس التركي أن المهم بالنسبة لتركيا هو وحدة الأراضي السورية، وعدم إعطاء الإرهاب أي ملاذ آمن في سوريا؛ ومن الواضح أن المعني تركيا بالإرهاب هو الوجود المقنّع لحزب العمال الكردستاني في منطقة شرق الفرات، بالإضافة إلى كوباني ومنبج وتل رفعت والشهبا، وفي مناطق أخرى تابعة لمحافظتي حلب والرقة، وهي المناطق التي تشهد تداخلاً بين مناطق النفوذ والتحكّم الخاضعة لمختلف سلطات الأمر الواقع.
والأمر اللافت في هذه التطورات التي توحي بتوجه العلاقات بين تركيا وسلطة بشار الأسد نحو التطبيع هو غياب الدور الإيراني، أو ربما تغييب لهذا الدور، في اللقاءات الجارية، والتوافقات التي يدور حولها الحديث. هذا رغم انتشار الوجود الإيراني العسكري والاستخباراتي على كامل الساحة السورية تقريباً، سواء في هيئة مستشارين أو أمنيين أو قادة عسكريين، يشرفون على عمليات تدريب وتوجيه وقيادة الميليشيات التي أدخلها النظام الإيراني بالتفاهم والتنسيق مع السلطة الأسدية إلى سوريا، والمقصود هنا بصورة أساسية ميليشيات حزب الله وفصائل الحشد الشعبي «العراقية».
وقد يكون تفسير هذا الغياب، أو التغييب، هو وجود رغبة روسية تركية، وحتى سورية رسمية في الحد من التغلغل الإيراني في الداخل السوري على صعيد المؤسسات الرسمية والمجتمعية. وهناك مؤشرات عدة تبين أن هذه الرغبة تتوافق إلى حد كبير مع التوجهات العامة بخصوص هذه المسألة ضمن الطائفة العلوية ذاتها التي لا يتوافق مزاجها العام وسلوكياتها على الصعيد الاجتماعي مع ما تحاول المؤسسة الدينية الإيرانية المذهبية فرضه عليها، والزامها بتوجهات غريبة غير معهودة وغير مقبولة بالنسبة إليها.
إلى جانب الغياب الإيراني عن مشهد التطبيع المتوقع بين تركيا وسلطة بشار، هناك الغياب الأمريكي؛ وهو غياب يثير أسئلة ملحة تتمركز حول مستقبل الوجود الأمريكي في منطقة شرق الفرات في أجواء الحديث التركي عن ضرورة وضع حد لسلطة «حزب العمال الكردستاني» عبر مسمياته السورية في المنطقة المعنية. ومن بين هذه الأسئلة: هل ستحصل الولايات المتحدة على ما تريده من ضمانات تركية تقضي بوقوف تركيا إلى جانبها في النزاعات الإقليمية والدولية التي قد تحصل؟ وهل التفاهمات الخاصة بهذه الخطوة التركية نحو سلطة بشار هي محصورة فقط بين تركيا والولايات المتحدة، هذا إذا وُجدت مثل هذه التفاهمات. أم أنها ستشمل الروس أيضاً، وحتى الإسرائيليين، شرط التزام سلطة الأسد بالحد من النفوذ الإيراني وأذرعه في سوريا، وبالتالي إبعاد إسرائيل عن احتمالات الخطر الإيراني، والأذرع التي يتسلح بها هذا الأخير، مع استمرارية الحرب الإسرائيلية على غزة، وارتفاع منسوب التوتر بين حزب الله وإسرائيل؟
والأمر الآخر الذي يفرض نفسه في هذا المجال هو ما تلخصه الأسئلة التالية: ما هو الثمن الذي ستدفعه تركيا مقابل تخلي الولايات المتحدة عن ورقة علاقاتها مع واجهات حزب العمال الكردستاني السورية، ودعمها لها؟ هل سيكون هذا الثمن هو التضحية بإدارة الجولاني، والتخلي عن الفصائل المسلحة بأسمائها المختلفة، وهي الفصائل التي سُوّقت تحت اسم «الجيش الوطني»؟ وهل سيتم التخلي عن الحكومة المؤقتة والائتلاف؟ أم أن هذا الأخير سيبقى ليكون مجرد شبح أو طيف سياسي هش يُقدم وقت اللزوم باسم معارضة رسمية مدجنة، تلتزم بالتوجيهات والتعليمات، من دون أن تُشْغِل نفسها بالأولويات السورية، وهي الأولويات التي ثار من أجلها السوريون على سلطة الاستبداد والفساد والإفساد، وتحملوا نتيجة ذلك القتل والتغييب والتدمير والتهجير، كما تحملوا عذابات المخيمات والمنافي على مدى أكثر من 13 عاماً؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تطرح نفسها، ونحن على أبواب المصالحة التركية الأسدية التي فرضتها، على ما يبدو، حاجات داخلية تركية واجهتها حكومة حزب العدالة والتنمية بعد خسارتها القاسية في الانتخابات المحلية. وهذا مقابل تنامي شعبية منافسها اللدود حزب الشعب الجمهوري الذي يدعو علانية إلى التفاهم والتعاون مع السلطة المعنية لإنهاء مخاطر مشروع «حزب العمال الكردستاني» والتخلص من اللاجئين السوريين. ويبدو أن حزب العدالة قد أصبح هو الآخر أميل إلى هذا التوجه بناء على حساباته الانتخابية المقبلة.
بقي أن نقول: لا يختلف اثنان في تركيا وسوريا حول أهمية العلاقات الودية بين البلدين لأسباب كثيرة منها جغرافية وتاريخية، ومنها اقتصادية وسكانية؛ وكل هذه الأسباب، وغيرها، تلزم الطرفين بالمحافظة على العلاقات الجيدة بغض النظر عن الحزب أو الائتلاف الحاكم هنا أو هناك. ولكن حتى تكون هذه العلاقات مجدية، لا بد من الحرص على استقرار الأوضاع بصورة طبيعية في كل بلد، وهذا الاستقرار يستوجب حل المشكلات الداخلية، والحرص على أن تكون الدولة حيادية تجاه سائر مواطنيها، تحترم خصوصياتهم وحقوقهم، وتعمل على تأمين مقومات العيش الكريم لهم. وكل ذلك يتطلب سد المنافذ على الفساد، وحل المشكلات الداخلية التي ترهق الناس، والتزام العدالة في التعامل مع سائر المواطنين من دون أي تمييز أو استثناء. وكل هذه الشروط غير متوفرة في سلطة بشار الأسد المسؤولة عن الكارثة التي ألمت بالسوريين طوال عقود، خاصة في مرحلة الأسد الابن الذي أوصل المجتمع والعمران السوريين إلى الحطام، وذلك على مدى أكثر من 13 عاماً من الحرب التي أعلنها على السوريين الثائرين الرافضين لحكمه المستبد الفاسد.
أما بالنسبة إلى الوضع التركي، فستظل القضية الكردية عاملاً منغصِّا على الصعيد الداخلي يتاجر بها «حزب العمال الكردستاني» ومجالا مفتوحا للاستغلال الإقليمي، وبوابة التدخل الدولي، ما لم تحلّ بصورة عادلة لمصلحة تركيا وكردها على قاعدة وحدة البلد والشعب، واحترام الخصوصيات والحقوق. وما يضفي أهمية خاصة على هذه القضية أنها تمتلك بعداً إقليمياً، وتحظى باهتمام دولي؛ لذلك سيكون الحل المقترح عاملاً إيجابياً على صعيد ترسيخ أسس الاستقرار الإقليمي، وقطع الطريق أمام التدخلات من مختلف الجهات. وهي التدخلات التي تستغل عدالة القضية الكردية، وغيرها من القضايا (مثل قضية اللاجئين السوريين الذين تعرضوا ويتعرضون لحملات عنصرية، وتحولوا إلى موضوع للمزايدات الشعبوية بين الأحزاب السياسية) لصالح الأجندات الخاصة بهذه الجهة أو تلك. لا سيما تلك الأجندات المرتبطة بتنامي نزعة التنافس بين القوى الكبرى ومساعيها من أجل توسيع مجالها الحيوي، لتتمكن من تأمين المواد الأولية والأسواق التجارية، وموجبات التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي تحديداً.
أما الترويج لفكرة المصالح العارية من دون البحث في دوافع الأزمة وأسبابها الحقيقية، ومن دون السعي لمعالجتها، فلن يحقق الاستقرار المستدام المطلوب لصالح سائر دول ومجتمعات المنطقة. هذا في حين أن العلاقات الإيجابية البعيدة المدى، والفعالة المثمرة تستوجب المعالجة الجذرية الشاملة لعوامل الأزمة التي تخيّم على منطقتنا؛ ومثل هذه المعالجة لا بد أن تكون أولوية الأولويات رغم كل العواصف السياسية والتقلبات المزاجية، الإقليمية منها والدولية.
المصدر : القدس العربي