حسن نافعة
يواجه الكيان الصهيوني، في المرحلة الراهنة، أوضاعاً تختلف كثيراً عن التي اعتادها من قبل، في مختلف الأصعدة المحلّية والإقليمية والدولية. فقبل “طوفان الأقصى”، اعتقد قادته أنّهم اقتربوا كثيراً من تحقيق حلمهم الكبير بشرق أوسط جديدٍ، تهيمن عليه دولةٌ يهودية كبرى. ساعد على ترسيخ هذا الاعتقاد تزايد أعداد الدول العربية الراغبة في تطبيع علاقاتها مع هذا الكيان، ما أوحى بأنّ العالم العربي بدأ يتخلّى، نهائياً، ليس عن القضية الفلسطينية فحسب، وإنّما عن المبادرة التي تبنّتها قمّة بيروت العربية لعام 2002 أيضاً، التي تقضي بموافقة الدول العربية، من حيث المبدأ، على تطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني شرط توفّر أمرَين رئيسيَين: قيام دولة فلسطينية مُستقلّة عاصمتها القدس الشرقية في الأراضي الفلسطينية كلها، التي احتُلت عام 1967. وتنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 194 لعام 1948، الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم. ولأنّ السعودية، بلد الحرمين الشريفين، وأكبر دولة عربية في منطقة الخليج، كانت قد بدأت تدخل بالفعل في مفاوضاتٍ تهدف إلى التطبيع الكامل لعلاقاتها مع الكيان، فقد اعتقد كثيرون أنّ القضية الفلسطينية لم تعد مُدرجة في جدول أعمال النظام العربي، وأنّها بدأت تدخُل بالفعل مرحلة التصفية النهائية. ولأنّ إيران ظلّت، مع ذلك، تمثّل تهديداً وجوديّاً بالنسبة للكيان، ليس بسبب طموحاتها النووية فحسب، وإنّما أيضاً، بحكم قيادتها محور المقاومة في المنطقة، فقد تصوّر قادته أنّ تسارع معدّلات التطبيع مع العالم العربي سيمكّنهم من قيادة المنطقة لمواجهة هذا التهديد، الذي ينبغي الشروع في إزالته على الفور، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً لإعلان الانتصار النهائي لمشروعهم، الذي يستهدف فرض الهيمنة الصهيونية الكاملة في ربوع المنطقة كلّها. غير أنّ نجاح حركة حماس، غير المتوقّع، في إطلاق “طوفان الأقصى” أربك هذه الحسابات كلّها، وحوّل الأحلام الصهيونية الجامحة أوهاماً غير قابلة للتحقيق.
اليوم، وبعد ما يقترب من تسعة أشهر من انطلاق هذا “الطوفان”، يبدو الكيان الصهيوني في وضع لا يُحسد عليه، خصوصاً بعد أن سقطت هيبة جيشه “الذي لا يقهر”، وانهارت سمعة أجهزة أمنه، التي طالما تغنّى بقدرتها على “معرفة كلّ ما يدور في أرجاء العالم العربي، بما في ذلك داخل غرف نوم قادته”. والواقع أنّه يمكن قياس حجم التدهور الذي أصابه، منذ ذلك الحين، عبر مجموعة من المؤشّرات، أكثرها أهمّية، أولاً، عجز أجهزة أمنه عن رصد ومتابعة الخطط والتدريبات والمناورات، التي كانت تقوم بها “حماس” في إطار استعداداتها للهجوم الجريء، الذي نفّذته في 7 أكتوبر (2023)، الاستعدادات التي استغرقت شهوراً طويلة، ما يعني ابتلاع هذه الأجهزة طُعماً أُعِدَّ لها بإحكام شديد عبر خطّة خداع استراتيجي نجحت في مفاجأة العدو، والإمساك به وهو في أشدّ حالاته ضعفاً. يتمثّل المؤشّر الثاني في فشل جيش الاحتلال في صدّ الهجوم الكبير الذي قامت به “حماس”، في ذلك اليوم، والذي مكّنها من اجتياح جدار عازل مزوّد بأحدث أجهزة الرصد والمراقبة، بلغت كلفته ما لا يقلّ عن مليار دولار، وقَتْلِ ما يزيد على 1200 جندي ومستوطن، وأسرِ ما لا يقلّ عن 250 آخرين. أما ثالث تلك المؤشّرات فهو فشل آلة الحرب الصهيونية الجبارة، وعلى مدى تسعة أشهر، في تحقيق أيّ من الأهداف التي حدّدتها لحرب شاملة شنّتها على قطاع غزّة، أطلقت عليها عملية “السيوف الحديدية”، وهي تدمير “حماس” عسكرياً، وإسقاطها سياسياً، واستعادة المحتجزين لديها كافّة، من إسرائيليين وأجانب. يكمن المؤشّر الرابع في عجز الكيان الصهيوني عن حماية أمنه بنفسه، إبّان هجوم مباشر شنّته إيران ليلة 14 إبريل/ نيسان الماضي، ردّاً على تدمير مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال ضبّاطٍ من الحرس الثوري هناك، فلولا مسارعة القوات الأميركية الموجودة في المنطقة إلى التصدّي لمئات الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية المُغيرة، وبمعاونة عدة دول عربية مجاورة، لكانت خسائره في هذا الهجوم أكبر بكثير مما لحق به فعلاً.
النجاح الوحيد الذي تمكّن جيش الكيان من إحرازه، على مدى الأشهر التسعة المنصرمة، هو تدمير قطاع غزّة، تدميراً شبه كامل، بما في ذلك الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس ودور العبادة ووحدات الإغاثة والإسعاف، وتجويع أهل غزّة، وقتل وجرح ما يزيد على 150 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وتشريد أكثر من مليونَين آخرين، بعد تدمير منازلهم أو إجبارهم على الرحيل قسراً مما تبقّى من هذه المنازل. غير أنّ هذا السلوك الإجرامي ارتدّ سلباً على فاعله، إذ ساعد في إماطة اللثام عن جوهر (وحقيقة) المشروع الصهيوني، الذي تأسّس أصلاً على قاعدتَي التطهير العرقي والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأسهم في تفجير مظاهرات عارمة عمّت العالم، تندّد بهذا الكيان المُتّهم رسمياً بارتكاب أعمال إبادة جماعية، خصوصاً بعد رفع جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضدّه أمام محكمة العدل الدولية، والمطلوب مثول رئيس وزرائه ووزير دفاعه أمام العدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية. وفي المقابل، اتّضح للعالم كلّه أنّ الشعب الفلسطيني هو الضحيّة، وهو المَجْنِيُّ عليه سنوات طويلة، وعادت القضية الفلسطينية لتتصدّر جدول أعمال النظامَين الدولي والإقليمي. لذا، اندلعت في عواصم العالم مظاهرات تطالب بتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه، وفي مقدمتها حقّه في تقرير مصيره.
ربما يكون من المفيد هنا أن نعيد التذكير بمسألة أساسية، أنّ عملية طوفان الأقصى، التي فجّرت هذه المتغيرات كلّها، جرت في وقتٍ كان الكيان يواجه أزمة سياسية ومجتمعية عميقة، فعلى مدى السنوات الثلاث التي سبقت هذه العملية، بدا عاجزاً تحت وطأة تناقضاته الداخلية عن تشكيل حكومة مُستقرّة، الأمر الذي اضطرّه لإجراء خمسة انتخابات تشريعية مُبكّرة، قبل أن يتمكّن، في النهاية، من تشكيل حكومة تتمتّع بأغلبية مُريحة نسبياً. وما إن بدأت الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو حتّى تبيّن أنّ أكثر التيّارات تطرّفاً وعنصريةً هو الذي يتحكّم ويمسك ببيضة القبّان فيها. لذا، لم يكن غريباً أن يتمتّع فيها الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش بصلاحياتٍ واسعةٍ تتيح لهما السيطرة على معظم القرارات المتعلّقة بإدارة الشأن الفلسطيني في الضفّة الغربية، من ناحية، وبتوزيع المخصّصات المالية، من ناحية أخرى. وقد اقترحت هذه الحكومة، بعد أيام قليلة من تشكيلها، إدخال تعديلات واسعة النطاق في النظام القضائي للكيان استهدفت تقليص دور المحكمة العليا في الرقابة على القوانين التي يصدرها الكنيست، كما استهدفت، في الوقت نفسه، تحصين الوضع القانوني لرئيس الحكومة المُتّهم بالفساد، والمُعرّض لملاحقات قضائية في حال فقدان منصبه رئيساً للوزراء. ولأنّ التعديلات القضائية المُقترحة أثارت اعتراضاتٍ واسعة، فقد تسبّبت في نزول مئات آلاف الإسرائيليين، وربّما ملايين منهم، إلى الشوارع، في مظاهرات منتظمة للمطالبة بإلغائها. وقد بدا المجتمع الصهيوني، من خلال هذه المظاهرات العارمة، منقسماً عموديّاً بين فئتَين غير قابلتَين للتعايش معاً: ليبراليين يريدون المحافظة على الطابع الديمقراطي القديم للنظام، في مقابل قوى فاشية وتسلّطية لا يهمّها سوى فرض أجندتها السياسية على المجتمع، وعلمانيين يريدون المحافظة على الطابع اللاديني للكيان، ومتعصّبين دينياً يضغطون من أجل تحويله مجتمعاً توراتياً.
في خضمّ هذه الخلافات المُحتدِمة، وما صاحبها من شروخ عميقة، ومظاهر تفكّك واضحة للعيان، وجّهت “حماس” ضربتها، التي دفعت المجتمع الصهيوني إلى الاتحاد من جديد حول أهداف حرب شاملة، تم إعلانها على قطاع غزّة على الفور. وقد نجح نتنياهو، عبر مشاعر الوحدة، التي تجلّت بوضوح بعد هذه الضربة القاسية، في تشكيل مجلس حرب برئاسته، وعضويّة رموز عسكرية أقرب إلى المعارضة من أمثال بني غانتس وغادي آيزنكوت، ما ساعد على اختفاء المظاهرات من شوارع الكيان، غير أنّ هذه المظاهر الوحدوية لم تدم طويلاً، فقد أدّى فشل الحكومة في تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة للحرب، والانكشاف التدريجي لمناورات نتنياهو الرامية إلى إطالة أمد هذه الحرب على حساب تحرير “الرهائن” عبر صفقة تبادل مع “حماس”، إلى عودة الشروخ والانقسامات للظهور مرّة أخرى. فقد راحت المظاهرات العارمة تندلع من جديد، وبعد أن كانت قاصرةً على أهالي “الرهائن”، والمتعاطفين معهم، وليس لها من هدف آخر سوى الضغط على الحكومة لإبرام صفقة تبادل، انضمّت إلى هذه المظاهرات شرائح اجتماعية وتيّارات سياسية أخرى، خاصّة بعد انسحاب غانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب، وبدأت تطالب كذلك بانتخابات تشريعية مُبكّرة، بالإضافة إلى التعجيل بإبرام صفقة لتبادل الأسرى والمُحتجزين.
من المرجّح أن تستمرّ محاولات نتنياهو الرامية لإطالة أمد الحرب، خوفاً من تفكّك وانهيار حكومته، بعض الوقت، لكن، لن يكون في مقدوره المحافظة على تماسكها فترة طويلة، خصوصاً إذا استمرّ صمود محور المقاومة، واستمرّ عجز هذه الحكومة عن تحقيق أيٍّ من أهداف الحرب المُعلنة. لذا، لم يعد أمام نتنياهو سوى الاختيار من بين بدائل ثلاثة؛ قبول صفقة بشروط “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، ما يعني اعترافه بالهزيمة بكلّ ما يترتب على ذلك من انعكاسات على الجبهة الداخلية؛ أو الهروب إلى الأمام، بالتصعيد في مواجهة حزب الله وشنّ حرب كبرى على لبنان، ما يعني احتمال اندلاع حرب إقليمية تشارك فيها أو تقودها إيران، بكلّ ما ينطوي عليه هذا الاحتمال من مخاطر؛ أو أنّ تصاعد الضغط الداخلي، وانشقاق عدد من النواب الذي يكفي لإسقاط الحكومة، يعنيان ضرورة الرضوخ لمطلب الانتخابات التشريعية المُبكّرة. وفي جميع هذه السيناريوهات، لن يكون في مقدور الكيان الصهيوني أن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل “طوفان الأقصى”.
المصدر: العربي الجديد