خرج الحراك الطلابي في جامعات النُخبة الأميركية أو ما يمكن تسميته “الربيع الجامعي” الأميركي، عن السيطرة، بعد أن تفجّر في جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، وامتد ليشمل عديداً من جامعات النُخبة في الولايات المتّحدة، مثل هارفارد وييل وستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبيركلي وميشيغن وبوسطن وتافتس، ونيويورك وفاندربلت وميريلاند، وأريزونا وتكساس ورايس وبيتسبرغ وروتشيستر، وغيرها كثير. وطاولت الاعتقالات صفوف الطلبة في جامعات كولومبيا وييل ومينيسوتا. وانضمّ أساتذة الجامعات إلى الطلبة، كما في جامعة كولومبيا، وأعلنوا تأييدهم الحراك الطلابي، وندّدوا بقمع إدارة الجامعة والشرطة الحرّيات الأكاديمية في الحرم الجامعي، ما اضطرّ الجامعة إلى تعليق الدراسة الحضورية وتحويلها إلى دراسة عن بُعْد. استمرّت الجامعة في إجراءاتها القمعية، وحظرت منظمات طلابية مثل طلاب من أجل العدالة في فلسطين، وأصواتا يهودية من أجل السلام.
مطالب الطلبة واضحة، كما وردت في اللافتات التي حملوها، والشعارات التي أطلقوها، وفي مقدّمها وقف الإبادة الجماعية في غزّة، والحرّية لفلسطين، ومطالبات جامعاتهم بوقف الاستثمارات وكلّ أشكال العلاقة معها ومع الشركات التي تستثمر في دولة الأبارتهايد (Divest). بالإضافة إلى ذلك، برزت مطالب جديدة نجمت عن الإجراءات القمعية لإدارات الجامعات مثل استئناف الطلبة للدراسة التي أوقفوا عنها، وإطلاق سراح الطلبة المعتقلين في السجون الأميركية على خلفية تلك الأحداث.
جاء الربيع الجامعي الأميركي صدمةً كبيرةً للوعي السياسي لدى الطبقة الحاكمة في الولايات المتّحدة، ويعلم صنّاع القرار خطورته على سياساتهم الداعمة لإسرائيل، إذ تكمن أهميته في انطلاقه من جامعات النُخبة في الولايات المتّحدة أو ما يسمى “Ivy League”، كجامعة ييل التي تخرّج منها خمسة رؤساء أميركيين، وجامعة كولومبيا ذات التراث العريق في الاحتجاجات الطلابية، كما أنّه يُشكّل امتداداً للحراك الطلابي في الجامعات الأميركية الذي أسهم في وقف الحرب الأميركيّة في فيتنام في الستينيات، وإنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الثمانينيات، ناهيك عن انتشاره بهذه السرعة غير المسبوقة في العشرات من الجامعات الأميركية خلال أيام معدودة، وتضامن أساتذة الجامعات مع الطلبة، ورأوا في قمع الحراك تهديداً خطيراً للحرّيات الأكاديمية، التي تمّسهم هم أيضاً.
أصاب هذا الربيع الجامعي الأميركي قوى الاستبداد واليمين الصهيوني في الولايات المتّحدة بحالة من الهستيريا، فعادت المكارثية التي انتشرت في الولايات المتّحدة في الخمسينيات، عندما كانت تُوجّه تهم التآمر والشيوعية للمعارضين من دون أي أساس، فذهب الجمهوريون الصهيونيون إلى استدعاء رؤساء جامعات هارفارد، وبنسلفانيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، للتحقيق معهم في الكونغرس، ثم أجبروا على الاستقالة من رئاسة جامعاتهم. أمّا رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، من أصول مصرية، التي استدعيت، هي الأخرى، فقد ضحّت بالحرّيات الأكاديمية في جامعتها من أجل سلامتها، فأصدرت أوامر لشرطة نيويورك باعتقال الطلبة المتظاهرين سلمياً، وفكّكت مخيماتهم في الجامعة، وفصلت عدداً منهم، وعلّقت دراسة قسم آخر، وحظرت منظّمات طلابية، حتى تنجو من غضب اليمين الصهيوني في الكونغرس.
انفلت عقال الهستيريا اليمينية في الولايات أمام هذا الحراك الطلابي، فذهب سياسيو اليمين وإعلامهم الموجّه إلى اتهام التظاهرات بأنّها “معادية للسامية” و”موجّهة ضد الطلبة اليهود”، رغم مشاركة قسم كبير من الطلبة اليهود أنفسهم في هذه التظاهرات، وزار المتحدّث باسم مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، جامعةَ كولومبيا، وأعلن من هناك أنّ الجامعة مُختطفة من الطلبة، ودعا رئيسة الجامعة، التي ما فتئت تتملّق لليمين الصهيوني إلى الاستقالة، لعدم قدرتها على قمع المظاهرات الطلابية. شاركته في ذلك اليمينية إيليس ستيفانك، النائبة الجمهورية في الكونغرس، التي دعت رسمياً إلى استقالة شفيق من رئاسة كولومبيا. وبذلك، خسرت الرئيسة، التي ضحّت بالحرّيات الأكاديمية في جامعتها لإرضاء اليمين الصهيوني، كلا الطرفين؛ الطلبة والأساتذة في جامعتها، واللوبي الصهيوني، الذي لا يعرف حدوداً لابتزازه للسياسيين.
ارتعدت الحكومة الإسرائيلية من الربيع الجامعي الأميركي، فشبّه نتنياهو الحراك بما كان يحدُث في جامعات ألمانيا في الثلاثينيات، وبأنّه معادٍ للسامية، وطالب الحكومة الأميركية بالتحرّك. ساعده في ذلك إيتمار بن غفير، الذي طالب بتسليح اليهود في الجامعات الأميركية، لا بل إنّ الهستيريا الإسرائيلية من الحراك تمثّلت باتهام وزير الشتات الإسرائيلي، عميحاي شيكلي، قطر بـ”تمويل” التظاهرات الطلّابية في الجامعات الأميركية.
ومع كل هذه الهجمة الشرسة من قوى الاستبداد واليمين الصهيوني المتطرّف في الولايات المتّحدة، واتهام الرئيس بايدن نفسه الحراك بأنّه “معادٍ للسامية”، إلا أنّ ردّ الطلبة كان واضحاً بزيادة التظاهرات التي اكتسحت مزيداً من الجامعات، وتضامن معها فنانون مشهورون، مثل سوزان ساراندون، ومارك روفالو، وجون كوزاك.
تدفع الولايات المتّحدة اليوم ثمناً باهظاً إزاء مساندة إدارتها الإبادة الجماعية التي تنفّذها إسرائيل في غزّة، فلم يعد هذا الثمن مقتصراً على الجانب المادّي (أقرّ الكونغرس مساعدات مالية لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار قبل أيام)، بل امتد إلى جوانب أخرى، أكثرها أهمّية الحرّيات الأكاديمية في جامعاتها، التي شكّلت نبراساً للتفكير النقدي، ومثالاً للحرّيات التي انتجت مفكّرين ومبدعين في جميع مجالات العلوم، فعادت المكارثية التي قُبِرَتْ في الخمسينيات، وانتُهِكَتْ حرمات جامعات الطليعة. يذكر أنّ آخر مرّة دخلت فيها الشرطة إلى حرم جامعة كولومبيا كان في عام 1968، حيث اشتعل الحرم الجامعي بالتظاهرات المندّدة بالحرب في فيتنام. ينهار هذا النموذج من الحرّيات الأكاديمية اليوم، وعلى يد سياسيّيه الذين قدّموا مصالحهم الانتخابية وتأمين الدعم المالي من اللوبي الصهيوني في الولايات المتّحدة على النموذج الأكاديمي الحرّ الذي حافظت عليه جامعاتهم عقودا طويلة. إسرائيل، ولوبياتها من اليمين الصهيوني الأميركي يفلسون أميركا وجامعاتها أخلاقياً، وهناك متواطئون أمثال نعمت شفيق يتعاونون معهم للحفاظ على مناصبهم.
لن يتوقّف الابتزاز الصهيوني للساسة الأميركيين ورؤساء الجامعات، وليس له حدود، وجو بايدن خير مثال على ذلك. فرغم خدمته طوال حياته الأجندة الصهيونية، وتعريف نفسه بأنّه صهيوني، ها هو يخسر الانتخابات الرئاسية بسبب مواقفه من الإبادة في غزّة، من دون أن يوافق نتنياهو على أيّ من طلباته المتمثّلة بمنع اجتياح رفح أو حتى إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة. وليس هذا فحسب، لا بل وجد المجتمع الأميركي نفسه آخذاً في الانقسام بشأن الإبادة في غزّة، ودعم إسرائيل من قبل السياسيين. ومع تزايد التظاهرات الطلّابية في الجامعات الأميركية ستزيد حالة الاستقطاب في المجتمع الأميركي. يعي السياسيون الأميركيون ذلك جيداً، ويبقى السؤال: متى سيستفيقون على الثمن الذي تدفعه الولايات المتّحدة لدعم دولة الأبارتهايد الإسرائيلي، ويوقفون مثل هذا الدعم. فقط الضغوط المجتمعية هي التي ستجبرهم على الاستفاقة؟
المصدر: العربي الجديد