دراسة العقل السياسى الحاكم، والمعارض فى العالم العربى، غالبا ما تميل إلى دراسة حالات تاريخية، من خلال تكوين هذا العقل، ومصادره التاريخية، وإنتاجه الفكرى، أو من خلال مواقفه ازاء القضايا الكبرى التى طرحت من خلال ثنائيات التقدم، والتخلف، وأسبابهما، أو من منظور الموروث الدينى والوضعى، وثنائية الاصالة والمعاصرة، أو الحداثة والتقليد، على نحو ما ظهر فى بعض الكتابات الرائدة، للإمام محمد عبده، طه حسين، وسلامة موسى، فى مؤلف عبدالله العروى البارز ألأيديولوجية العربية المعاصرة، ثم كتابات محمد عابد الجابرى، وجورج طرابيشى، وآخرين. لا شك أن هذه المقاربات مهمة، وأساسية، إلا أن بعضها يدور فى إطار المتون النظرية، وبعضها سجالى النزعة، وبعضها الآخر، حول مدار الثنائيات المتضادة، وبعض من التعميمات وكأننا إزاء عقل واحد، بالنظر إلى أن درس العقل العربى من خلال تحليل نظرات، ومقاربات بعض كبار المفكرين، أو سردياتهم، التى لا تعكس فى الغالب العقل الحاكم، لبلدان العالم العربى- على تعددها وخصوصياتها التاريخية وتكوينها الاجتماعى الانقسامى باستثناء الحالتين المصرية والمغربية - إلى حد ما، خاصة فى مراحل التخلف التاريخى، أو فى مطالع النهضة العربية المغدورة، وتراجعها فى أعقاب الاستقلال عن الكولونيالية الغربية، أو أثناء بناء الدولة الوطنية، وأسباب الفشل فى استكمالها، وإعاقة شروط بنائها على أسس الحداثة السياسية، والقانونية، والاجتماعية.
يبدو أن بعض هذه المقاربات، على أهميتها تناست درس العقل السياسى، وعمليات تفكيره، وتحليله للمشكلات، وإنتاج مقاربات لحلها، وفشله فى عديد القضايا، لا تزال هذه الدراسات بالغة الندرة لاسيما انها لاتزال بعيدًة عن الدرس الاكاديمى، بل المقاربة السياسية. مرجع ذلك القيود على البحث السياسى فى بعض الدول العربية ومن ثم فرض ذلك، حالة من رهابُ الخوف لدى الجماعات البحثية العربية، من مقاربة العقل السياسى السلطوى فى حركته، وتعامله على المشكلات السياسية الداخلية، وفى صناعة قرارات السياسة الخارجية، وطرائق تعامله مع المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، لأن مقاربة هذه السياسات من منظورات موضوعية، ونقدية، تؤدى إلى دفع أثمان من حرية الباحث، وقد تؤدى إلى مصادرة هذا البحث. فى ظل ظاهرة موت السياسة، لم تدرس أسبابها داخل كل بلد عربى إلا قليلا، وأيضا لم يدرس العقل السياسى، أو العقل اللاسياسى البيروقراطى، والتكنوقراطى، أو العقل المالى –الذى يقارب المشكلات الاقتصادية، من منظور المالية العامة- ولا العقل الدينى السياسى النقلى، وكيفية مقارباته لعلاقة الدين لمشكلات العصر وقضاياه داخل كل بلد عربى.
من هنا تبدو الحاجة الملحة إلى درس العقل السياسى فى حركته من خلال المشكلات، والسياسات، والقرارات السياسية، وخاصة فى وقت الأزمات الحادة الخارجية، والإقليمية، والداخلية، لأن ذلك يفتح الطريق إلى تحليل العقل السياسى العملى، مع اطلالة على جوانبه التكوينية.
تكوين العقل السياسى الحاكم منذ ما بعد المرحلة الكولونيالية، ينطوى على بعض من الاستمرارية، والتغير، ومن حالة دولة عربية لأخرى. العقل السياسى، فى غالبُ المجتمعات الانقسامية، كان خطابه السياسى يميل إلى التركيز على الحد الأدنى من الوحدة الوطنية لمكوناته الأساسية، بينما الواقع الموضوعى، كان يميل إلى هيمنة المكون الأغلبى – دينيا ومذهبيا،وعرقيا ولغويا، وقبائليا وعشائريا... إلخ - من حيث سياسات التنمية الاجتماعية، وتوزيعاتها المناطقية، وفى قيادة الحزب الحاكم، وفى تركيبة السلطة السياسية وحكوماتها المتعاقبة، وأجهزة الدولة البيروقراطية وقياداتها. ثمة بعض الرشادة السياسية لقادة ما بعد الاستقلال، بالنظر إلى أدوارهم فى الحركات الوطنية ضد الاستعمار.
ثمة ظاهرة ولع العقل السياسى البراجماتى، بالنموذج الغربى، كجزء من المركزية الغربية، والتعليم، على الرغم من عدم القبول بتطبيقاته فى النظام السياسى، والاجتماعى. القبول الشكلى بالهندسة الدستورية، والقانونية الأوروبية – اللاتينية، والأنجلو ساكسونية- كأحد مظاهر الدولة، لكن تم ولايزال تجاوزها فى التطبيق، واعتمادها كمحض أدوات بين يدى الحاكم الفرد عند قمة النظام ومواقع القوة حوله.
التركيز المسيطر لفظيا وخطابيا من العقل العملى على الحرية واستقلال الدولة، وبنائها، وحرية الجموع الشعبية، والتحالفات الاجتماعية على حرية واستقلالية الفرد، وعلى مصالح الشعب دون المصالح الفردية، على نحو أدى إلى نفى الفرد الحر فى الواقع الاجتماعى. التركيز الخطابى والشعارى على مفهوم الاجماع الوطنى من خلال التصور السلطوى، بديلا عن التعددية السياسية، وتأميم الصراع الطبقى لصالح الطبقة المسيطرة سياسيا، اجتماعيا على التعدد السياسى.
كان خطاب العقل السياسى العملى فى عالمنا العربى فى عقدى الخمسينيات والستينيات ايديولوجيا يركز على التحرر الوطنى، والاستقلال، ورأسمالية الدولة الوطنية، وتحالف الطبقات الاجتماعية، وخطاب يمينى ومحافظ مضاد يركز على الدين، والقيم الاجتماعية التقليدية، والعائلة والقبلية، والعشيرة، والمذهب، فى مواجهة نظم راديكالية عربية مضادة، وعلى علاقات هذه الدول المحافظة تاريخيا بالولايات المتحدة، والدول الأوروبية الكولونيالية كبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا.
العقل المسيطر فى الدول ذات المجتمعات الانقسامية، يعتمد على قوة جهاز الدولة الأمنى، ومن ثم أدى إلى سطوة بعض الأقليات وهيمنتها على بقية المكونات المجتمعية الأخرى، وهو ما أدى إلى انفجارات فى بعض هذه البلدان، عقب الربيع العربى المجازى، وأدى إلى حروب أهلية –سوريا مثالا-، أو إلى بروز ميليشيات عسكرية، على نحو ما ظهر فى العراق بعد سقوط نظام حزب البعث، واحتلال العراق، وما بعد.
العقل السياسى العملى ما بعد الاستقلال، عقل سياسى اتهامى مولع بالمؤامرات الداخلية، والخارجية، وفى ذات الوقت يتسم بأنه عقل يوظف الانقسامات الداخلية، وإنتاج الخلافات على أساس دينى وايديولوجى، ومن أبرزها توظيف الدين فى النزاعات إزاء بعض معارضيه من أشباه العلمانيين واليساريين.
فى إطار الصراع العربى – الاسرائيلى، ينظر العقل السياسى العملى لإسرائيل من منظور القوة العسكرية، والدعم الغربى لها، دونما نظر إلى ديناميات النظام السياسى الديمقراطى التمثيلى، ومراكز البحث العلمى – فى العلوم الطبيعية والإنسانية -، والحيوية السياسية، وحرية المبادرة، والتطورات التقنية، التى أدت إلى إنتاج القوة العسكرية، والقدرة على التعامل مع الطبقات السياسية الحاكمة فى أمريكا، والدول الأوروبية. بعض هذا العقل السياسى العربى، يحاول توظيف القوة الإسرائيلية فى مواجهة إيران كقوة وظيفية، دونما نظر لأثر دمجها فى الإقليم العربى، والشرق أوسطى.
بعض العقل الدينى السياسى لا يزال ينظر إلى إسرائيل من منظورات ماضوية للسرديات الوضعية حول الديانة اليهودية، أو من خلال السردية التوراتية الوضعية تجاه الإسلام، والمسلمين، دونما نظرات علمية وسياسية للواقع الموضوعى.
لا شك أن العقل السياسى لآباء الاستقلال وبعض الرشد السياسى، يختلف عن العقل السياسى المسيطر منذ نهاية الحرب الباردة، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولى، ومعها السياسات النيوليبرالية على نحو أدى إلى الربيع العربى، وفشل المراحل الانتقالية، كنتاج للبراجماتية الساذجة، وغياب التكوين والخبرات السياسية، ومن ثم تفاقمت المشكلات فى بعض الدول العربية.
المصدر : الاهرام