في حمص كنتُ قريباً من أصحابِ ذائقةٍ شعريةٍ عاليةٍ ومختلفة، وكنا نتلمّس كلَّ جميل في الشعر، ونبحث في سرّ جماله.. بين هؤلاء الأصحاب سمعتُ شعراً لمظفر النوّاب غير الذي أسمعه عادةً من التسجيلات المنتشرة له، غير الشعر الشفوي الخطابي والحاد؛ شعراً هامساً رقيقاً فنياً، شعراً يختلف حتى عن الشعر العراقي الإعلامي، يختلف عن شعر الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي والبياتي، والسياب قبلهم؛ سمعت: ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة، والرحلات القصية، والمساورة أمام الباب الثاني، واللون الرمادي... لذلك ما ركَنتُ إلى التسجيلات والقصائد الشعاراتية الخالية من الشعر، بل قرأت المتاح من المطبوع لمظفر. وبصرف النظر عن الطباعة غير الجيدة وعن التفاوت الشعري الكبير، الذي أحسبه تفاوتاً منهجياً مقصوداً أحياناً (حتى في القصيدة الواحدة كانت لغتُه الشعرية تتفاوت بشكل غريب وتشطر القصيدةَ إلى قصائد مختلفة المستويات).. بصرف النظر عن ذلك، لم يخبْ أملي بالعثور على شعرٍ مختلفٍ يعرف المظفّر أنه ليس ما يطلبه الجمهور، فيتركه مقيّداً بعيداً، لكنه قليل ويطغى عليه الجانب الآخر من شعره. فالشعر الفصيح لمظفّر يوجد في مكانٍ آخر غير تداولي.. في الكتب لا في الأمسيات؛ ومن المؤسف أن تُقيَّمَ تجربةُ الرجل شعرياً (أو تجربة أي شاعر آخر) بالنظر إلى فنّية النصوص التي ألقاها على المنابر (لدينا سردٌ طويل عن أهمية الإلقاء.. لا ضير بذلك.. لكن العارف بالشعر لا يستلبه الشاعر بالإلقاء ولا يقنعه بالإلقاء وحده). معظم الشعراء يعتمدون في الإلقاء على نصوصٍ معينة تحدّد هويتهم وتسهم في رسم شخصيتهم الشعرية ويكررونها وتُطلَب منهم ويعرفون أنها تصلح للشفوية.. بينما يظل معظم شعرهم من دون إلقاء في الأمسيات، وتجد في دواوينهم شعراً قد يكون أجمل من النصوص الشهيرة لهم، لكنك لا تجدها في أي تسجيل لهم، ولم يقرؤوها في أي أمسية شعرية.. فعلَ ذلك دنقل ونزار ودرويش مثلاً. وكانت القصيدة الشعاراتية الفجة التي لا تخلو من الإسفاف هي الميدان الإلقائي الجماهيري لمظفر، وكان الجمهور يطالبه بها بإلحاح؛ شهدتُ هذا في أمسية له في حمص، أذكر أنها كانت في مثل هذه الأيام، في شهر أيار، وكان الجمهور ملِحّاً جداً عليه لكي يقرأ النصوص الخالية من الشعر، ولكن الجمهور يرى أنها الشعر الحقيقي والوحيد (في وقتٍ لاحق حضرتُ أمسية لمحمود درويش في حمص وكان بعض الجمهور يطالبه بقراءة قصيدة "أناديكم.. أشدّ على أياديك"، وهي لتوفيق زيّاد لا لدرويش). وأذكر أن الإعلامية سلوى الجرّاح سألت مظفّراً في إذاعة لندن عن أسلوبه الذي لا يخلو من البذاءة، فأجابها بأن كل ألفاظ البذاءة التي في المعاجم لا تكفي للتعبير عن الواقع العربي. ورأيُه هذا لا يسوّغ الإسفاف في الكتابة ولا يجعل هذا الإسفاف شعراً، لكنّ مظفّراً في نصوصه هذه عوّل على تجربته الحياتية والسياسية وحسب، لا على الحساسية الشعرية تجاه هذه التجربة، وهذا جزء من بناء الشخصية الشعرية لديه. وأعتقد لو أنَّ مظفّراً فكّر يوماً في جمع شعره لكان له رأي آخر، ولترك معظم ما ألقاه في الأمسيات صوتاً حراً مطلَقاً من غير تقييد.
ومن المؤسف أيضاً أن يُقيّم مظفّر شعرياً، من المؤيدين والمعارضين لشعره على السواء، انطلاقاً من "القدس عروس عروبتكم"؛ فهي شعارٌ شفوي مرحليٌّ جماهيري لا شعرَ فيه. وهذه النبرة الحماسية الشعارتية تظهر دائماً في انتكاسات الأمم - التي لنا النصيب الأكبر منها في هذا الزمن - وتصبح مطلباً شعبياً؛ فكلنا سمعنا في السنوات الأخيرة بهذا الشطر غير الشعري: "عبثاً تحاول، لا فناء لثائر"، الذي لا فضيلة فيه إلا إقامة الوزن، بالتعبير النقدي المهم والذكي لأجدادنا القدماء؛ لكنّ التلقّي الشعبي له رأي آخر.
ومن المؤسف كذلك أن نتّخذ موقفاً من الذات الشخصية لأي إنسان بناءً على اختلافنا مع رؤيته الفنية، ومن المهم جداً ألّا يكون حبُّنا وكرهنا لشاعرٍ ما (ولأي إنسان) تقليداً؛ بل أن يكون ناتجاً من ثقافة شعرية ومعرفة بتاريخ الشعر (الفني والسياسي) الذي وُجِد فيه هذا الشاعر، وبهذا ننجو من (التفاجؤ) الغريب بآراء الشاعر وبشعره بعد موته، معلنين بصراحةٍ لاشعورية أننا نناقش ما لم نكن نعرفه عنه في حياته، بل نقلّد تقليداً له أثرٌ جميل في النفس ولكنه غير صائب.
*****
من الجيد أنه لا يبقى مع الزمن من الشعر إلا الفني والعاطفي والتفاعلي، بينما يذهب الباقي إلى مدوّنة تاريخ الأدب ليُدرس بموضوعية بوصفه منظومة علمية من نتاج الأمة؛ فلن يكون المؤرخ والباحث الأدبي المستقبلي معنيّاً برأيي ورأيك بشخصية الأديب وهو يتعامل مع النص الأدبي التراثي. وكذلك سيبقى في ذاكرة محبّ الشعر الفنُّ الأقرب إلى النسق المُختار والمُنتخب عبر عصور الشعر؛ لذلك لا أحد الآن يتذكر مديح إيليا أبو ماضي للجنرال أللنبي، حين دخل سورية، بأنه غضبَ على الهلال (الإسلام) وأنقذ المسيح، بل تتذكّرون له الطلاسم والطين والتينة الحمقاء؛ ولا أحد يتذكر كذلك للمتنبي، على شهرته، قولَه في مدح طاهر بن الحسين:
إِذا عَلَوِيٌّ لم يكنْ مثلَ طاهرٍ
فما هو إِلّا حُجَّةٌ لِلنَّواصِبِ
**
لن أتوقّف عند القصيدة الشعبية لمظفّر، فكل الذين أعرفهم رفعوا أيدي الموافقة على رأي إجادة الرجل وتفوّقه بالعامية، لكنني أشير سريعاً إلى أن طبيعة إلقاء الشعر العامي وطقوس أدائه عموماً كانت واضحة الأثر في إلقاء مظفّر للقصيدة الفصيحة، فالإلقاء الخاص ركيزة أساسية في الشعر العامي وهو جعله كذلك في الفصيح، وربما كان لهذا دورٌ لاشعوري في اختياره نصوصاً فصيحة معينة للإلقاء. ومرة أخرى أشير هنا إلى أن طريقة ظهور الشاعر هي جزء من الشخصية الشعرية التي يحاول بناءها وتكوينها وتكريسها في حياته الشعرية.