من المتداول أنّ الشعب السوري هو من أكثر الشعوب إنشداداً للاشتغال "بالسياسة". ولقد أتت ثورته قبل عقد من الزمن لفتح الأبواب أمام خروجه من طوق التصحر الطويل خلال فترة حكم الأسد، وعودته الواسعة والجديدة للسياسة بمناخ الثورة.
فإلى أيّ حد راكم السوري، وخاصة الناشطين والنخب المتنوعة، من خبرة حقيقية وتعاطٍ نوعي في فضاء الشأن العام والسياسة؟
فالسياسة في فلسفتها العميقة - وعمومية ممارساتها - هي فن ممارسة الحياة ودفع عملية التطوير والتغيير للأمام على قاعدة من الأخلاق والإنسانية المفترضة، وبما يتجاوز المفهوم الملتبس والمتداول: أنّ السياسة هي "فنّ الممكن" الذي قد يعني السلب والتشاطر أكثر مما يعني فعل الايجاب.
وبهذا المعنى، تفترض ممارسة السياسة، وكلما علا مستواها ومستوى الفاعل المسؤول، توفير أدواتها الموضوعية من: معرفة ومرونة وتكيّف ومراجعة..، مع الحفاظ على ثبات البوصلة بقدر وضوحها وصوابيتها.
إنّ الواقع الذي نعيش ونعبُر - كقضية وطنية وكوطني سوري - بعد استهلاك عقد من الزمن من عمر المسيرة الثورية، حيث نشهد هيمنة واقع الارتباك والاستقطابات واهتزاز المواقف ومفاعيل الانفعالات والتسطيح واستسهال الأحكام المسبقة..، إنما يعبّر عن ارتباك في ممارسة السياسة وبالتالي ممارسة الثورة، في وقت أحوج ما نكون فيه إلى تجنب الاستنزاف البيني وإلى جمع الجهود البناءة وتنسيقها لتوفير مقومات الصمود الاستراتيجي ومقدمات تصويب المسار.
فمن الأبواب التي تمس ممارستنا للفعل الثوري والوطني العام باب الإنزلاق إلى خلط وفوضى التعامل مع "الثنائيات" الشبه مفتعلة في بعضها، حيث يغلب التعارض والاستقطابات الكيفية التي تسيء للمسيرة الوطنية وضروراتها ذات الأولوية.. وحيث تغيب ضرورة التفريق والتمييز بين التفاهم والتوافق حول المبادئ الأساسية والفكرية الثابتة والغير قابلة للتصرف وبين مواقف سياسية غير جامدة، تقع في صلب برنامج عمل يتكيف مع الأوضاع وموازين القوى المتحركة ومع الحفاظ على المبادئ والبوصلة الوطنية..
لقد واكبت هذه "الثنائيات" المتوادة مسيرة الثورة منذ البدايات وما انفكّت تتراكم وتتداخل، بدءاً بموضوع التدخل الخارجي قبولاً ورفضاً، فثائر / معارض - أغلبية / أقليات - علماني / اسلاموي - سلمي / مسلح - محرر / محتل - عربي / غير عربي - ثورة مستمرة / تحوّل لحرب أهلية.. تكتل ثوري حقيقي / تكتل وهمي أوتجمع كبير / صغير.. النظر لمؤسسات المعارضة كمكسب وطني / أو حكم تخاذل وعقبة أمام الثورة... وعديد الثنائيات الأخرى.
إنّ التعامل التعارضي والقيمي مع هذه الثنائيات حدَّ الاستقطابات الحاصلة، إضافة إلى الانزلاق نحو استقطابات الهويات الفرعية الغالبة التي اصبحت تستهوي البعض تقديماً على حساب الهوية الوطنية، أصبح هذا التعاطي يشكل عُطبا ذا عدوى في الوقت الذي يَضعف عملياً الحديث ذو الأولوية عن المشتركات الوطنية العامة والرئيسة مثل: الانتماء الوطني الواعي لسورية الموحدة ولشعبها الواحد الغني بتنوعاته، والايمان الواعي والراسخ بالمواطنة والعدالة والمساواة أمام القانون..
هنا، وفي صلب الفعل الثوري والوطني، يُطرح السؤال البسيط: هل هذه الثنائيات حقيقة واقعة أو هي مفتعلة وملتبسة وهل التعامل معها يستند إلى خلفية التعارض أم مقدمة التكامل الجدلي والمنطقي فكرياً ومصالح..
ربما يعتقد البعض أنّ مثل هذا التعامل التعارضي طبيعي له موقعه ضمن هامش تنوع المقاربات وحرية التعبير، أو أنّ مثل هذا الموضوع ثانويٌ في واقع الحال؟
إنّ مواكبة التفاعلات حول عديد الثنائيات على صعيد الشارع الوطني، وخاصة مِمن يُحتسب في فضاء الثورة، تقود بموضوعية إلى تلمّس الاحتقان الكيفي الذي يعبر عن نفسه بغياب العمل الجامع الذي يوحّد المفردات ويتفاهم حول معاني وأبعاد المصطلحات في الإطار الوطني العام.. في حين أنّ الفعل الثوري للتحرر والتغيير نحو تحقيق أهداف الثورة الشعبية في الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية وبناء الدولة الحديثة - دولة المواطنة والمساواة - يجعل من مقتضايته الاعتراف بالآخر والحوار السلمي ووعي مصالح الوطن شعباً وجماعات والعمل الوطني المشترك في شبكة أمان وفاعلية.
فلو تطرقنا مثلاً لثنائية "داخل / خارج" التي مازالت تواكب - بشكل ميكانيكي - خطاب العديد من الناشطين وينظر لها كمؤشر على "ثورية" الناشط، وتبنى عليها طروحات قد تصل حدّ التنظير والتأويل والتصنيف. تقابلنا بعض الأسئلة الهامة من مثل: كيف نقدّم تعريفاً أميناً ودقيقاً لما يعنيه "الداخل" ولما يمثله "الخارج" وهل كل منهما هو جغرافيا أو مجرد جماعة ما أو أي فرد؟، وهل يمكن النظر إلى أحد طرفي الثنائية بغير خلفية التكامل والتضامن والفاعلية، طالما أنّ موارد طاقات كل منهما ومنسوب المساهمة في العملية الثورية ليست ثابتة ولا جامدة، مما يعني - بالضرورة الموضوعية - تجنّب أي حكم تفضيلي لا معنى له بل قد يحمل الاساءة للموضوع، مع الاعتراف والتأكيد على حجم معاناة الداخل "التي لا مثيل لها والتي أضحت تشمل مجموع جماهيره"..
وإذا تطرقنا إلى ثنائية أخرى أضحت إشكالية فعلية وموضع استقطابات حادة وذات تفاعلات وتداعيات غير حميدة على صعيد وحدة الصفوف وتجميع الجهود، وهي "ثنائية ثورة / معارضة أو ثائر / معارض" وضرورة أن يتحول المعارض لثائر.. فإنّ التباسات موضوعية عديدة ستواجهنا، تتعلق من جهة، بالتعريف الدقيق للثائر والذي تحتاج ترجمته إلى سلوك منسجم وليس فقط مجرد خطاب جزئي الزوايا عالي النبرة، ومن جهة ثانية بتحول العديد من الذين كانوا يعتبرون أو مازالوا يعتبرون أنفسهم ثواراً وممثلين أو قادة للثورة - بنظر البعض - إلى مصاف الثورة المضادة. وهل يمكن اعتبار أن كل "من يعتبر نفسه أو ينظر له كثائر" هو بالضرورة وبالملموس وعلى طول الخط أكثر عطاء وفائدة للفعل الثوري في عملية التغيير الوطني من "كل معارض" يساهم في عملية الصمود الاستراتيجي وخدمة القضية الوطنية من موقع "قدره الخاص".
أليس واقع القضية الوطنية الصعب وتحديات الثورة ومخاطر المرحلة تفرض وتحتاج كل جهد وطني وكل فعل صادق مفيد مهما كانت مساحته في الزمان والمكان، بما يعني ضرورة الانفتاح على صعيد الوعي والممارسة على كل الوطنيين الصادقين مستقلي الإرادة والضمير والتضحية.
لم تكن ثورة التحرير الجزائرية حتى آخر يوم ترفض انضمام الجزائريين إلى صفوفها المدنية والسلمية كما المسلحة وكان أن اعتبروا "مجاهدين"..
ليس اختيار هاتين الثنائيتين العامتين يهدف للدفاع عن طرف ما أو تسويق آخر، فهذا ليس موضوعاً بذاته، ولا يعنيني أصلاً، لكن الهدف يتطلع للدعوة إلى ضرورة أن نراجع الكثير من العناوين السائدة على خلفية الحقيقة المحايدة، ومرجعية مصلحة الثورة كجزء من مصلحة الوطن العليا..
بمثل هكذا وعي عقلاني وهكذا حرص وطني جامع يمكن - بتقديري - معالجة أي ثنائية قومية أو مذهبية: كاسم الدولة، أو اللامركزية أو موقع الدين من الدستور أو مبادئ دستورية خاصة أو عليا..