لم تقتصر بركة شهر رمضان على صيامه وقيامه، فهذا الشَّهر يضمُّ في عباءته بركاتٍ كثيرة استطاع القائمون على الإنتاج التلفزيوني استغلالها، لتصبح متلازمة شهر رمضان والأعمال التلفزيونية هي المتلازمة الأشهر في العالم العربيِّ، وبذلك نسخت هذه المتلازمة ما قبلها، ولم يبقَ لرمضان بهجته التي كان عليها قبل أكثر من عشر سنوات مضت، أيَّام كانت نهارات رمضان مخصَّصة للعبادة والعمل وتحضير أطباق الطعام والتفنُّن بها، أما مساءاته فقد كانت عبارة عن زيارات لصلة الرحم ونشر المحبة والفرح في قلوب الصغار والكبار، لم يبقَ من ذلك الزمان إلا سرابات متلاشية الأثر، وأصبحت النهارات والمساءات متشابهة؛ لأنَّ الناس أصيبوا بهذه المتلازمة التي ترتبط باللاوعي عندهم، هذا اللاوعي الذي ينظِّم بشكل تلقائي حياة الناس على قياس ما سيشاهدونه في رمضان؛ مسلسلات ومسابقات ومقابلات مع المشاهير وغير المشاهير تغطي ساعات اليوم وتزيد عليها، وخلال هذا الهرج والمرج تفيض بركات رمضان على مواقع التواصل الاجتماعي التي ترى في هذا الشهر موسمها المفضَّل أيضاً، لتصنِّف وتحلِّل وتحدِّد ما هو المسلسل أو البرنامج الترند في هذا الموسم.
ويبدو أنَّه من باب الاعتياد وتحوُّل الطارئ والمؤقت مع مرور الأيام إلى طبيعيٍّ دائمٍ أصبحت هذه المتلازمة طقساً من طقوس رمضان، ويبحث منتجو المسلسلات ومقدمو البرامج على نوعٍ جديد يلامس أذواق الناس وأسلوب يؤثر فيهم ليحققوا نسبة مشاهدات عالية دون أن يراعوا في ذلك خصوصية الناس وحرمة مشاعرهم في الموضوعات التي يتمُّ اختيارها، بل تسعى الجهات المموِّلة لتكسب شرف رعاية برنامج مشهور، ولا يهمُّهم من وراء ذلك سوى جني الأرباح.
اشتركت مواقع التواصل الاجتماعي مع المحطات التلفزيونية في الترويج للأعمال الدرامية والمسابقات واللقاءات، فوسائل التواصل الاجتماعي باتت تنافس المحطات الفضائية في سرعة نقلها للخبر، وفي سهولة وصولها لشريحة أكبر من المشاهدين، ليس هذا فحسب؛ إنَّما تحوَّلت إلى أداة سياسية تقوم بإيصال رسالة تحمل في طياتها مضامين النقمة والرفض لثورات الربيع العربي، مستخدمة أسلوب التعاطف الكاذب والمبالغ فيه على الناس المشاركين في هذه البرامج، وعلى المشاهدين لمحتواها أيضاً، والمشاركة فيها لا تكون داخل استديو المحطات الناقلة لهذا البرنامج أو النشاط؛ إنما مسرحها هو الشارع، والصدفة فقط هي من قد تجعل الشخص مادة وفريسة دسمة لهذا البرنامج، حيث يصطاد صاحب النشاط بخبث ومكر مشاركيه ممَّن يجد فيهم أفضل أداة لإيصال رسالته إلى الناس.
لقد اتخذت هذه البرامج ظاهرياً طابعاً إنسانياً، فهي تهدف إلى تقديم المساعدة المادية والعينية لشخصٍ محتاج؛ إلَّا أنَّ الطريقة المتبعة في هذه البرامج وفي عملية اختيار المشاركين تؤكد أنَّ الغاية الأساسية منها ليست سوى التلاعب بمشاعر البشر، والمتاجرة بجراحات الناس الفقراء تحت مُسمَّى المساعدة الإنسانية، ثم يتمُّ إيصال الرسالة الأهم والتي يرغب ممولو هذه البرامج إيصالها، وهي أنَّ الثورات ضد النظام الحاكم هي من تسبَّبت بشقاء من وقع عليه الاختيار وعوزهم، وبأنَّ المموِّل غير المعلن اسمه بشكل صريح غالباً، وكأنَّه جابر عثرات الكرام، سيساعد كلَّ المحتاجين ويمد لهم يد العون، وسيفعل ما بوسعه للقضاء على الفقر.
برنامج (الناس لبعضا) والذي يقدمه الإعلامي الموالي لنظام الأسد شادي حلوة من أبرز النماذج التي تمثِّل هذا النوع من البرامج، وقد بدأ بثُّه قبل شهر رمضان، ولكنَّه انتشر بشكل واسع في موسم رمضان لهذا العام، حيث انتقل حلوة من تغطية المعارك، وتدمير المدن، وتعفيش الجيش الأسدي لها، والتشبيح للسلطة الاستبدادية، إلى تقديم برنامج ما بعد الحرب، وكأن شادي حلوة الذي كان مرافقاً للجيش انتهت مهمته بانتصار الجيش، وقد عاد للعمل المدني بين الناس، ليوحي لهم بأنَّ الجيش انتصر وبأنَّ انتصاره هذا يحمل في طياته الكثير من الخير، وقد جاء ليزيل آلام سنوات الحرب عن الناس، ويخلِّصهم من معاناتهم ، ويوحي لهم أيضاً أنَّ ما يصيبهم من خير وربح في هذا البرنامج هو جزءٌ يسير ممَّا سيصيبهم من النعيم العسكري الأسدي لاحقاً بعد عودة الحكم الدكتاتوري على الكثير من مساحات سوريا لينطبق عليه المثل الشعبي القائل: "يقتل القتيل ويمشي بجنازته".
يقوم البرنامج على البحث عن الناس البسطاء والمحتاجين في مدينة حلب والتي كانت من أشد المدن السورية تضرراً وتدميراً، فيستوقفهم ويقوم بطرح أسئلة لا تسخر من ثقافتهم ولا من قدرتهم العقلية فقط، بل تستهدف عاطفتهم ومشاعرهم وإنسانيتهم، وتقوم بالترويج بشكلٍ غير مباشر بواسطة المواقف السياسية لهؤلاء الناس للسلطة الحاكمة الداعمة لشعبها، فيقوم بطرح أسئلة على الشخص الذي اختاره من قبيل: 1+1 كم يساوي، و 2+1 كم يساوي، و5+1 كم يساوي، بل يذهب كثيراً من الأحيان للقول: "نسأل سؤالنا المعتاد 8+1 كم يساوي"، ثم يمنحهم الجوائز المادية مقابل أسئلة في منتهى التفاهة والسخافة، فيظهر بمظهر الكريم المعطاء أمَّا الناس فيظهرون بصورة الجهلاء والبلهاء والأذلاء.
ختاماً، يقول الممثِّل الأمريكي داني جلوفر: "اليوم، أصبحت ديكتاتورية الإعلام بديلاً للديكتاتورية العسكرية، تستخدم المجموعات الاقتصادية الكبيرة وسائل الإعلام وتقرر من يمكنه التحدُّث ومن هو الرجل الطيب ومن هو الشرير"، ولا أدري نتيجة هذه التحولات في الرؤية إن كان الناس لبعضهم بعد كلِّ ذلك الإذلال أم أصبح الناس ضدَّ بعضهم البعض؟!