ما يجري في وطننا أكبر من ثورة؟ فالصراع تحول من صراع من أجل سوريا إلى صراع على سوريا؟ وهناك عاملان في هذا الصراع: خارجي وداخلي. أما الخارجي فليس موضوعنا اليوم، إنما الداخلي.
الصراع الداخلي في الثورة وعلى الثورة؛ أطرافه ثلاثة: الإسلامويون والعلمانويون والعسكريون. وكل طرف من هؤلاء يدعي بأن الثورة ثورته؛ وأنه الأب الشرعي لها؛ ولا يحق للآخرين التصرف الثوري إلا بعد إذنه؛ وهذا ما يذكرنا بالامرأتين المتصارعتين على الطفل في قصة (دائرة الطباشير القوقازية).
الأطراف الثلاثة المتصارعة في الوصاية على الثورة تتناسى الجيلَ الأنقى جيلَ الشباب الذي فجر الثورة؛ وتحمل عبأها الأكبر والذي تنحى بعد عسكرة الثورة؛ والانقلاب على أهدافها المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولم يعد موجوداً؛ فغالبيته إما هاجر إلى أوروبا؛ أو أصبح منزوياً كافراً بالثورة؛ نادماً على فعلته؛ يذبحه الأسى والألم؛ لما آلت إليه ثورته؛ التي تحمل فيها مشقة كسر حاجز الخوف والاعتقال والملاحقة.
ولكن هل ادعاء الفرقاء الثلاثة المتصارعين على الثورة صحيحاً؟
الادعاء الإسلامي:
الإسلامويون ينظرون إلى الثورة؛ كما لو أنها حق شرعي لهم وحدهم! وعلى الآخرين أن ينضووا تحت وصايتهم؛ ادعاؤهم مبني أن الثورة انطلقت من المساجد؛ وبالتالي هم من فجَّرها؛ والأحق بقطف ثمارها؛ وأنهم أكثر الشرائح الاجتماعية التي عانت من جور النظام.
ويرى فريق منهم: أن الثورة ليست إلا الشوط الثاني من معركتهم مع النظام، وأما شوطها الأول فكانت أحداث الثمانينات؛ ولهم ثأر معه؛ ولديهم تاريخ في التضحيات والدماء قدموها. وأن المزاج الديني لدى السوريين يجعلهم المفضلين اجتماعياً؛ كما أنهم بيضة القبان في معارك الائتلاف؛ وبالتالي من حقهم استثمارها لمشروعهم الإسلاموي.
الادعاء العلمانوي:
يرى العلمانيون أنهم أول من زرع فكرة تغيير النظام في المجتمع؛ ودليلهم في ذلك بيان الـ(99) ودورهم الكبير في ربيع دمشق ولجان إحياء المجتمع المدني وصولاً إلى إعلان دمشق؛ حتى تأسيس المجلس الوطني؛ وهم من قادوه، وتحملوا تبعاته سجناً وملاحقة؛ وأنهم الوجه الأبرز في الثورة سياسياً؛ ويشكلون الحالة العقلانية ثورياً، وتضحياتهم عبر أحزابهم في معتقلات النظام؛ لا ينكرها إلا جاهل، وأن هناك حالة سطو إسلامية على الثورة ومسارها؛ انتهت بحرفها عن أهدافها الأساسية؛ كما أن تجربة الإسلامويين في الربيع العربي فاشلة، وستدخل البلد في حالة عدم استقرار طويلة؛ ولم يعد للدولة الدينية مكان في هذا العصر، ولذلك هم أولى بالقيادة.
الادعاء العسكري:
الثوار العسكريون؛ لا يقبلون بالطرفين؛ ولديهم مشروعهم القائم على الحل الصفري؛ ولا يرون مع النظام سبيلاً آخر؛ وتلك مُسلمة لايرون غيرها صالحاً للتطبيق؛ كما أنهم من دافع وضحى وقاتل النظام؛ وكسر شوكته؛ وطرده من جلِّ المناطق، وبالتالي فعلى الجميع أن يدخلوا بيت الطاعة العسكري؛ وأن لا يتصرفوا إلا بعد العودة لهم؛ وأن يصطفوا خلفهم؛ وهم الورثة الشرعيون للثورة؛ ولا يمكن أن يُنجز حل إلا من خلال موافقتهم؛ ليكون الدور الأكبر لهم.
وهكذا يستمر الصراع بين الأطراف الثلاثة؛ إنْ على صفحات التواصل الاجتماعي؛ أو غرف الواتساب ومقاهي اللجوء والنزوح؛ وكل طرف يصرخ: هذه ثورتي وليست ثورتك.
ولكن هل ادعاءات الثلاثة حقيقية؟
في ظل هذا الصراع الدونكيشوتي البعيد عن قانون الفعل والقدرة على التغيير؛ المتناسي للمجتمع وهمومه والكوارث الإنسانية التي حاقت بالسوريين، نجد أن الادعاءات الثلاثة يجب أن تناقش؟
أما ادعاء الإسلامويين: ففيه شيء من الصحة؛ ولكن الوطن لم يعد يحتمل رأياً واحداً؛ ولا حزباً واحداً؛ وأن ادعاء الوصايا على المجتمع لأسباب تاريخية ودينية؛ فيها اتهام مبطن بأن المجتمع قاصر؛ ليتولى أمره راشد؛ وهذا تعالي ووصايا على الآخرين؛ لم يعد لها سوقاً في هذا العصر، نعم: المجتمع السوري مجتمع مؤمن، ولكن عليهم أن لاينسوا؛ بأن المجتمع مازال مؤمناً بالإسلام؛ بيد أنه غير مؤمن بالإسلامويين؛ وشتان ما بين الاثنين.
وعلى الإسلاميين أن يقوموا بمراجعات حقيقية لسلوكهم في الثورة ونظرتهم للشريك معهم في الوطن من غير المسلمين؛ وأن يكونوا واضحين في الديمقراطية وموقفهم من العلمانيين والمواطنة والليبرالية؛ وأن تجربتهم بدول الربيع العربي غير مشجعة؛ جلبت كوارث على المجتمع؛ ودفعت بثورات مضادة؛ أعادت انتاج الأنظمة السابقة.
وأما الادعاء العلماني: لاشك بأن التيار العلماني هو الأضعف على الأرض؛ ولديهم نظرة متعالية نحو الآخرين؛ وأن العمل الثوري حدِّي بطبيعته؛ ويحتاج إلى تضحيات؛ وتَحَفظُ جلُّهم على الأسلمة تحفظ محق؛ جعلهم خارج دائرة الحدث الثوري؛ فهم هاجروا خارج البلد؛ وأنشأوا صالوناتهم الفكرية ودكاكينهم الحزبية؛ كما يُتَهمون بالفشل في إدارة الملف السياسي؛ ولم يقدموا حتى اللحظة رؤية سياسية؛ حتى فقد الشارع الثقة بهم.
وأما الادعاء العسكري: فإنه متهم مع النظام بتدمير البلد؛ ومقولة أن لاحل إلا من خلالهم؛ وعلى الجميع أن يكونوا تابعاً لهم منطق استفرادي ولا وطني؛ وهو ما ثار المجتمع ضده على النظام؛ كما أن العسكر خضعوا لأجندات خارجية فرضها عليه الداعم؛ حتى غدت بعض معاركه؛ لها حدود لكسر بعض التوازنات؛ وهو من يتحمل أمام الشارع سوء ادارة المعركة العسكرية؛ فليس من المعقول أن تتحصن بالمدنيين؛ لتمنح النظام فرصة التدمير والتهجير؛ وهو المسؤول عن انسلاخ الحاضن الاجتماعي عن الثورة.
إن بقاء الفرقاء الثلاثة متمسكين بمواقفهم المتخالفة المتصارعة على "كعكة"؛ لم تنضج بعد؛ بل ربما احترقت؛ وثقافة القطيعة مع الآخر ثقافة لا وطنية؛ فالوطن بحاجة إلى تشاركية من الجميع وتعاون وتنسيق؛ وهذا لا يتحقق إلا باتفاق الجميع على عقد اجتماعي يتضمن ميثاق شرف وطني؛ يحتوي على تطمينات حقيقية للجميع؛ وأن يقدم الفريق السياسي مشروعه الوطني الذي يجعل الحامل الاجتماعي؛ يلتف حوله؛ ليعمل على تقصير عمر الصراع الدموي.
سورية لجميع أبنائها على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية والثقافية؛ وهي فوق الآيديولوجيات؛ ومدنية الدولة الحل الأمثل للجميع، ومن يقود البلد البرنامج؛ وليس الأشخاص أو التيارات على أساس إيديولوجي؛ ولا وصايا لأحد على أحد؛ وعلى الجميع أن يتعاونوا ويتقاسموا الأدوار لمصلحة الوطن، وإلا فإن الثورة في خطر حقيقي؛ ومظاهر اليأس والإحباط؛ لم تعد خافية على أحد؛ والمستضعفون يصرخون يريدون خلاصاً؛ ومن يرى أنه الأحق والممثل الشرعي والوحيد؛ فإن الجيل الذي حرك المجتمع؛ وكسر حاجز الخوف؛ يصرخ بهم جميعاً: إنها ثورتي وليست ثورتكم.