لا مُفتي إلا الأسد

ماريكاتير للفنان الاردني عماد حجاج
ماريكاتير للفنان الاردني عماد حجاج


شكّل المرسوم التشريعي رقم 28 لهذا العام، الذي أصدره بشار الأسد حالة من الارتباك في النظرة السائدة لعلاقة النظام مع قمة الهرم التسلسلي لسلطة رجال الدين في دولة بنيت عقيدة النظام فيها على حالة من التعاون والاتكال بين الخطابين السياسي الرسمي والديني المُوجّه، المُكمل والمساند كل منهما للآخر على حساب أصول السياسة والدّين، في دولةٍ لم يكف مُحتكروها عن الادعاء بأنها دولة عَلمانية. بل تم استخدام الخطاب الديني لتأكيد وتبرير و"تَحليل" هذه المسألة.

في الحقيقة أن للقيادة البعثية منذ عام 1970 تاريخاً لم ينتهِ مع رجال الدين، أو ما يجب أن نصطلح عليهم "رجال دين الدولة". وذلك أن في السنين الأولى الهشة من حكم حافظ الأسد، التي أعقبت استيلائه على السلطة في سوريا، لَعبَ الخطاب الديني، بالتوازي مع القبضة الأمنية، دوراً محورياً في إرساء أركان الحكم الأسدي، في بلاد لم تكن قد شهدت هدوءً سياسياً ورضاً جماهيرياً على حُكمٍ واحد. فكان مُفتي الجمهورية الظهر الديني للسلطة السياسية المدعية العَلمانية، والآلة العسكرية "العقائدية" المُتذرعة بالدفاع عن مصلحة الأمّة، ليس هذا فقط، بل كان الخطاب الديني لسان السلطة وسفيرها الشعبوي لقول ما تَستحي أن تقوله القيادة السياسية، فكان توظيف الخطاب الديني هو البلسم الذي أنقذ السنين الأولى لحكم الأسد، والتي شكلت جزء مهم من مشروع الدكتاتور لفرض سلطته بالقوة. وليس هذا مجال أي استعراض تاريخي، بل فقط للتذكير بأهمية دور الخطاب الديني الى جانب الفعل العسكري السياسي.

الكثير من التحليلات والقراءات التي نُثرت هنا وهناك على مواقع مختلفة، ذهبت إلى تحليل المرسوم على أساس عزل مذهبي أو طائفي، بل أن الكثير من الأصوات المعارضة للأسد ونظامه ولمنصب المفتي وشخص أحمد حسون ذاته، اعتبروا أن إلغاء هذا المنصب طعنة في ظهورهم ضمن سياق طائفي أراد فيه النظام تجريد السُنّة من حقهم في الاحتفاظ بمنصب مفتي الجمهورية، باعتبارهم الأغلبية المذهبية. ومن الغريب أن بعض هذه القراءات بنيت على التسليم بأمرين: أولاً أن المفتي كان يعتبر مُمثلا حقيقياً للطيف الأوسع من أهل السُنّة. ثانياً: أن التقسيم المذهبي والمُحاصصة الطائفية في المقاعد السيادية بالدولة، حاصلة بالفعل ومُعتمدة، كما لو أنه أمر استُفتيَ عليه مسبقاً، وكأَنّ الكثيرون، إن لم نقل غالبية، أهل السُنّة موافقون على هذا الطرح بشقيه، التمثيل والمحاصصة !

لكن إذا بحثنا فيما استند إليه هذا الطرح، سنجد فيه حُججاً واقعية إذا ما اعتبرنا جوهر الاشكالية هنا هو منصب المفتي برمزيّته وليس بشخوصه أو فاعليته أو ولائه للسلطة. وبهذا رد على من أيدوا إلغاء منصب المفتي على اعتبار موقفهم ممن شغلوه في فترة حكم الأسد. إلا أن من ذهبوا هذا المذهب في قراءة الحدث بأبعاد مختلفة ومتفاوتة، أغفلوا بشكل مجحف باقي القوى السنيّة التقليدية، ودورها الحقيقي في المجال العام السوري، سياسياً و اجتماعياً، ومدى تأثير ارتباط قسم منها بالنظام، ومعارضة قسم آخر له، ومدى ارتباط وتأثير القسمين على الرؤى السياسية و الاجتماعية للشارع، بمَعزل عن وجود المفتي أو عدمه، ومدى اعتماد شرعية منصب المفتي "السُنّي" الدينية و الشعبية على هذه القوى ومَن يُمثلها، بصرف النظر عن كون شرعيته قائمة بشكل أكبر على اعتبار منصبه دوراً وظيفياً وتنفيذياَ في خدمة صانع القرار السياسي.

على عكس، أو الى جانب، العديد من تلك التحليلات التي ركزت على اعتبار إلغاء منصب مفتي الجمهورية يُشكّل ضربةً للمشيخة السُنيّة في سوريا، أو تقليصاً لدورها السيادي/ السياسي، باعتبار منصب المفتي كان جزءاً من سلطة الدولة العميقة في سوريا، أو بُعداً مرئياً منها، فإن التفكير في الجانب الآخر لدور القوى السُنيّة الفاعلة أو المُحتملة، خارج نطاق السلطة، يتيح لنا رؤية أفضل في الاتجاه الآخر، وطرح سؤال مُغاير: ماذا لو كان الأسد بإلغائه منصب المفتي واستهداف الدور السنّي الرسمي، كما تقول الفرضيات السابقة، قد اعطى لباقي القوى السُنية الكلاسيكية مبرراً لملئ فراغ المفتي من موقعها كقوى شعبية متجذرة في جميع شرائح المجتمع المختلفة !. ما يجب التفكير به في هذا السياق هو الفراغ الذي يحدثه غياب هذا المنصب، وبقدرة القوى السنيّة التقليدية القديمة/الكلاسيكية، من حقبة ما قبل 1970، على الظهور مُجدداً. تلك القوى التي تمثلت بالتساوي من بقايا برجوازية وطنية ورؤوس أموال سُنيّة رعت الزوايا الدينية، ومن قاعدة عريضة من التشكيلات المُجتمعية المختلفة، من طلاب الجامعات حتى الفلاحين في القرى المحيطية للمدن باعتبارها حواضر سُنيّة ذات ثقل شعبي قادر على الفعل أو التأثير في الفعل السياسي. فهل سنشهد نهضة مضادة من قبل هذه القوى لاستعادة دورها ومكانتها الرمزيّة كوريثة شرعية لتمثيل المُجتمع السنّي، والمتحررة من أي سلطة كما كانت طوال عهدها ؟!.

من الواضح أن ما سعى إليه بشار الأسد في قراره، باستبدال منصب المفتي بمجلس إسلامي متعدد المذاهب ليس محض صدفة، بل هو استكمال لمسيرة بدأها مسبقاً في صياغة مجتمع سوري جديد، يمثّل "سوريا المفيدة والمتجانسة" كما أسماها، وهو جزء من "حربه على الإرهاب" ومقاومته للحرب الكونية التي ادعى أنها تستهدف سوريا ببعدها الاستراتيجي والديمغرافي والحضاري. فقام بخلق هذه التوليفة المتناغمة مع البروباغاندا التي قدمها من خلال العناوين الرنانة التي ذكرناها، وهذا لا يشكّل إلا فصلاً آخر في نموذج شمولية السلطة على حساب آخر خط حرية اعتقاد لدى المُجتمع الذي بات ميدان تجارب ايديولوجية وسياسية وعسكرية.

من هذا المنطلق، لا يبدو أن أي مجلس بديل تابع لوزارة الأوقاف سيتمكن من أخذ دور المُفتي (حتى لو ملأ فراغه بيروقراطياً)، فأي مجلس نابع عن هذه الوزارة، هو بالضرورة جزء تابع لهذه السلطة ذاتها، ولا يتمتع بأي استقلالية، والأهم من ذلك، لا يملك أي رمزيّة دلاليّة تعكس صورة الدولة والمجتمع وصبغته الحضارية، أي لا يقارب أي حلول للإشكالية المطروحة. وعملياً هو ليس إلا منصب وظيفي يكاد يتشابه في طرق عمله مع مؤسسات أقل شأناً كالبلديات مثلاً. هنا تبرز حاجة الأسد الى جيش من المشايخ الشعبيين غير الرسميين، ليأخذوا دور المفتي كحلقة وصل بين السلطة والشارع والمخبرين معاً، وهذا بات سهلا على نظام رفع أراذل القوم على منبر الجامع الأُمَوي. وربما سنشهد هكذا تشكيلات في الغد القريب.

أما إذا كانت هذه القرارات تصب في صالح مشروع الذهاب لدولة ذات طابع عَلماني، الخطوة التي ستقود نظام الأسد "للمصالحة الكونية" كما يطمح، فإن أي تشكيل وزاري ديني ينتمي للحكومة سيكون عقبة في هذا الطريق، اذاً وزارة الأوقاف يجب أن تكون مشروع مرسوم إلغاء أيضاً، وهذا ما يعوق قدرة النظام في تطبيق منهجيّته في خلق سوريا مفيدة ومجتمع متجانس يُقوّض فيه أي قوى ذات رمزية حضارية وتاريخية تبتعد عن إطار سوريا الأسد، خاصة إذا كانت هذه القوى قادرة على الفعل والتمثيل السياسي. إلا أن بشار الأسد، حسب هذه الفرضية، في حالة ارباك تتعارض فيه رغباته السلطوية الداخلية مع حلمه بالعودة للاندماج مع المجتمع الدولي.

وربما كان الأمر غير ذلك، أو أنها مجرد رسالة أراد بشار قولها للعالم: نحن فقط من يُمثّل كلّ السوريين، ولا دين ولا مذهب ولا مفتي ولا أي رمزية حضارية في هذه الجمهورية، هي فقط سوريا الأسد.

سعد الربيع | صحفي.

*المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع السوري اليوم 

سعد الربيع


سعد الربيع | صحفي وكاتب.