لا أؤمن بنظرية المؤامرة التي يُردِّدُهَا دهاقِنةُ الأنظمة؛ أؤمنُ فحسبُ.. ومنذ 2012 بأن "المؤامرة الكونيّة" لم تكن ضدّ نظام آل الوحش؛ بل.. ضدّ السوريين!.
وإذا كانت هناك مؤامراتٌ ضدّ كلّ السوريين.. فهي من تخطيط هذا النظام؛ ومن تنفيذ شبٍّيحته المُنتشرين بيننا في بُلدانِ تغريبتنا؛ بل.. لهُم حلفاءٌ من "اليمين المُتطرِّف" في كلِّ بُلدانِ لجوئنا!.
من البديهيّ أن تكون للمِحرَقةِ السوريّةِ ضرائبُها الدمويّة: الماديّة والمعنويّة؛ فلكلِّ شيءٍ في الدنيا ضريبةُ تستوفيها الدنيا منّا؛ قبل مصلحة الضرائب؛ وكما أنّ العيشَ تحتَ سيطرة النظام... له ضريبته؛ فإن العيشَ تحتَ سيطرة ميليشيات إخوة المنهج وقسد والجيش الوطني المدعوم من تركيا.. له ضريبته أيضاً؛ ولتغريبتنا.. ضرائبُها.
*صدمة اللجوء وإعادة التوطين.
صار من نافل القول.. الحديثُ عن مشاكل لجوئنا من بلدٍ لم يعُد لنا؛ إلى بلدانٍ ليست لنا؛ بل.. وتختلفُ قوانينها وثقافتها وأسلوبُ الحياة والعمل فيها.. اختلافاً جذرياً.
صَدمةُ اللجوء؛ أو.. صدمةُ إعادة التوطين؛ تطالُ كثيرين منًّا؛ وبخاصةٍ من الشباب الذي ما أن بدأ وَعيُهُم يتشكَلُ؛ حتى تمَّ بَترُهُم بالتهجير المُمَنهَج.. عن أُسَرِهِم وعن مُجتمعِهِم وعن عاداتهم؛ ودفع بعضُهم أثماناُ فادحةً حتى نجا بجسَدِه فحسبُ؛ وبعضُهم.. دفع حياته في زوارق الموت؛ وآخرونَ.. تاهوا في مُدُن التغريبة وتاهت بوصلتهم فيها؛ وبعضُهم.. لم يستطع الاندماجَ في مُجتمعه الجديد فانتكسَ إلى داخِلِه؛ واستسلمَ للوحدة والانعزال والسلبيّة والتشاؤم؛ وبعضُهم انتحر.. وبعضهم هَرَبَ من كلِّ هذا إلى الإدمان على المُخدرات وهي المُتاحةُ يكلّ انواعها في الغرب؛ وبعضُ حكوماته.. يُتِيحُها لكلِّ مَن هُوَ فوق السِنِّ القانونيّة كما في هولندا وسواها.
يتناثر السوريون في أوروبا.. بين القرى والمدن والبُلدان؛ فإذا تجمّعوا في مكانٍ أعادوا انتاجَ كلّ السلبيّات التي حملوها معهم في حقائب تغريبتهم؛ مع وجودِ إيجابياتٍ بالطبع.. بين الحين والآخر عبرَ النجاح الفرديّ لهذا السوريّ أو ذاك؛ لكنه نجاحٌ فرديّ فقط.. يُشبِهُ الخلاصَ الفرديَّ الذي يزداد طرداً مع الخَيباتِ والهزائمِ في الوطن؛ وفي سيرورة الثورةِ على الاستبداد؛ دونَ تَوأمِهِ: الفساد!.
وكنتُ أشرتُ بأننا قد خسرنا سياسياً وعسكرياً وإعلامياً واجتماعياً.. منذ سنوات؛ ولم يبقَ لنا.. سوى نضالِنا القانونيّ في المحاكم المُختصة بجرائم الحرب؛ وسوى إبداعنا الثقافي والفني نفتحَ عِبرَهُ النوافذَ المُغلَقَة علينا.. لنُخاطِبَ كلَّ حينٍ الرأيَ العامَّ العالميّ.. ولكن بشكلٍ فرديٍّ جداً وغيرِ مُؤسَّسٍ على ثقافة العمل الجماعي؛ فيُتاح لبعضِنَا بين فترةٍ وأخرى.. أن يُنَوِّه بمُعاناتنا وبالمَحرَقةِ الأسديّة "الهولوكوست" الذي أصابت بالحروق السطحيّة والمتوسطة والعميقة جميعَ السوريين بلا استثناء: مُعارضين له ومُؤيدين ورماديين؛ كما دَمَّرَ البُنية التحتيّة لبلدنا فأعادَهَا 500 عامٍ إلى الوراء.
*- تقويض شهود العَيَان:
وتلك خطَّةٌ بدأها النظام الأسديّ منذ زمنٍ.. لإجهاض مُحاكمَتِه دولياً؛ بزَعزَعَةِ الثقةِ بالشهود الذين قد وثقوا انتهاكاته في المؤسسات الحقوقية الدولية؛ وفضحوها في الإعلام الدوليّ وعبر البرلمانات وفي اللقاءات مع صانعي السياسة والرأيِ العام؛ وكان الأبرزُ نجاحاً في هذا المجال "القيصر" مُتسلِّحاً بآلاف الصور التوثيقية لبعض وقائع هذه المحرقة؛ وبخاصةٍ.. الموت تحت التعذيب.
ولعلكم تذكرون كيف بدأ النظام الأسدي منذ سنوات بسياسة تقويض الشهود في الداخل السوريّ؛ كما فعل مع "محمد بياسي" ومع الشيخ "الصياصنة" ولن تكون حالة "مازن" آخرَ ألاعيبه؛ لكنها أولً محاولاته الخارجية!.
ولسوف يلعبُ النظامُ وشبّيحته في أوروبا وحلفاؤُه دوراً خطيراً في استثمار حالاتِ الانكفاء واليأس التي وَصَلَ بعضُها الى التصريح بالعودة إلى حضن الوطن.. بينما تتوالى رحلات الرماديين نزولاً إلى سوريا وصعوداً من الشام!؛ ومؤخراً.. بينما تنعقد محاكمتان في ألمانيا ضد اثنين من مخابرات الأسد؛ وبينما يتمّ الإعلان عن 9 آلاف وثيقة تُدين الأسد الصغير ونظامه؛ يتمّ ترويج أخبارٍ "غير مُؤكدة" عن مقتل مازن؛ ويحتدم النقاش في مواقع التواصل؛ عمّا إذا كان سيُعتبر شهيداً.. أم مجرّد قتيل!.
* العودة انتحاراً.. إلى الوطن.
مازن الحمّادي.. هو النموذجُ الأكثر إشكاليةً حتى الآن؛ بل إنّه صورة انعطافاتِ شريحة الشباب الذين خرجوا في المظاهرات واعتقلوا؛ بينما نجا بعضُهم.. فهاجَر؛ وقد أَعَدتُ مُشاهدَةَ أغلبِ فيديوهاته حتى لا أقع في التعميم أو التخوين او التكفير أو التبرير أو التهويل.. كما فعل كثيرون للأسف.
وفي فيديوهاته وتصريحاته يتبدّى مازن أكثرَ شعبويةً كلّما أوغَلَ في إدمانه؛ وفاقداً للبوصلة الوطنيّة أيضاً.. حين يخوَّنُ رفاقَ مسيرته؛ بل يتهمُهُم بالعمالة لأجهزة المُخابرات الأوربيّة؛ ويتبدّى فاقداً للبوصلة السياسية في حديثِهِ الشَعبَويُّ عن الأكراد؛ بل.. بتلكَ الكراهيّةُ وهي مُتداوَلَةٌ للأسف عند كثير من السوريين: عرباً وأكراداً على حدٍّ سواء.
كلُّ ما سَبَقَ عن توصيف مازن الحمادة كنموذج.. لا يُفيدنا في شيءٍ؛ إذا لم نربطه بالخُطّة الأسديّة لتقويض الشهود!؛ ولا يعنيني هنا إذا كان قد عاد من هولندا بِرِضَاه أم استدرجُه شبّيحة النظام مُستغلِّين حالته النفسية المُزرِيَة؛ ولا يُفيدنا لومُ السوريين في هولندا لأنهم لم يعتنوا به كما يجب.. ليُشفَى من إدمانه.. إلخ!...
وكان قد سافر من ألمانيا وليس من هولندا؛ وبوثيقة سفرٍ من قنصليّة النظام في برلين؛ برفقة موظفةٍ تعمل فيها؛ بشهادة من ابن عمه في ألمانيا؛ وكان زوجُ أخته قد أكد بأنّ صلاحيةَ جواز سفره السوريّ مُنتهية؛ وربما منحه النظام جواز سفر استثنائي.. ليُسهّل عودته!.
أعتقد بأنّ مازن ذاتُهُ مُقتنعُ بسبب يأسه النفسيّ الشديد.. بالعودة: افتداءً لعائلته؛ وأيضاً.. لمُحاربة ال"بي واي دي" وانتهاكاتهم لأهله وأقربائه في منطقة الجزيرة والفرات!.
ضياعُ البوصلةِ أيضاً.. أدَّى بنا إلى كُلِّ ما شَهِدنُاه من خيباتٍ دامية منذ 10 سنوات؛ وما تلك الحادثة ثمّ الأخبار غير المُؤكدة عن موته تحت التعذيب.. إلا جُزئيةٌ صغيرةٌ في سلسلة متوالية.
من واجبي.. كشاهدِ ضميرٍ على ما يحدث؛ أن أُنبِّهَ إلى نقلِ النظام الأسدي لمعركته الاستخباراتيّة إلى حيثُ نحنُ في بلدانِ تغريبتنا.. وسيتصيَّدُ كلَّ هفوات شهودنا وناشطينا وأصغرَ أخطائنا؛ وحتى حالاتنا النفسية في هجوم مُعاكسٍ.. على كلِّ ما أنجزناه قانونياً ضدّ انتهاكاته؛ وبخاصةٍ مع وضع بنود "قانون قيصر" قيدَ التنفيذ؛ بينما مسيرة العدالة الانتقالية طويل جداً؛ وتستغرق الحملات القانونية ضدّ مُجرمي النظام في أوروبا وقتاً طويلاً جداً؛ كما تقتضي المُثابرة في دعمها بالشهود والأدلة.
*ملاحظة: لم يتمّ التأكد حتى الآن من وفاة مازن الحمادة في سجون الأسد