لا أكتب عن نظرية ولا حقيقة علمية، إنما هي خلجات مصدور، وحديث نفس تبث ما في مكنونها من إحساس، تعيش في مجتمعٍ محيط، إنها كلمة مُتعِبة مرهقة حتى في معجمها، غير واضحة المعالم، مبطنة مستترة، تخدعك في كل حين، إنها متربصة متأهبة على الدوام، ما يجعلها منفردة الخطورة، تسبح في الدرك السفلي في مساوئ الأخلاق، أتحدث عن النفاق وصاحبه، الذي يريك من اللسان حلاوة عليها طلاوة، يتأنق في تعبيره ويسحرك ببيانه، يقطف لك من بدائع الزهر ويجنيك اليانع من الثمر، يلوح البِشرُ على وجهه، وتبرق الأسارير على مُحيّاه، لكنك لا تستطيع أن ترى العتمة والسواد الذي بين جنبَيه، ينفث من صدره خبثاً وسمّاً كما لو أنه أفعى تبث سمومها في ماءٍ نمير، تراه يتزلف للمسؤول مؤيداً وناصراً، مظهراً حبه وولاءه، مادحاً إيّاه بالإصلاح والنجاح والفلاح، وفي ساحات النقد والهجاء، تجده الحطيئة أو ابن الرومي، يهجو مع الهاجين وينتقد مع الناقدين.
والعجب العجاب، أن كثيراً من الناس يعلمون زيفه ونفاقه، لكنهم يتماهون مع قولهم: "الناس يسعدون مع النفاق بينما يألمون من الحقيقة"، وهذا موضع يحتاج إلى فضلِ تأملٍ؛ لبحث أسبابه ومآلاته، فالنفاق اليوم ضارب أطنابه، باسط ذراعيه في كل مجال، نفاق اجتماعي، نفاق سياسي، وآخر وظيفي.. إلخ، لم تعد تحمله الصدور فقط، بل إننا نجده اليوم سيلاً جارفاً على هواتفنا المحمولة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أكاد أزعم أننا نعيش عصر النفاق، مبررين لأنفسنا بضغوط سياسية واجتماعية واقتصادية وحياتية، ناسين أو متناسين أننا نحكم بذلك على أنفسنا بالإعدام والموت، وربما يقول قائل إن الحياة الاجتماعية، أو العيش مع الجماعة يفرض علينا أن نتنازل عن جزء من شخصيتنا، وهذا صحيح، لكن علينا أيضاً أن لا نقبل أو نقنع بكل ما هي عليه هذه الحياة الاجتماعية، علينا أن نتطلع لما يجب أن تكون عليه هذه الحياة.
وإلا فإن كثيراً من الكائنات الأخرى تسير سبيلاً واحداً، وتطرق درباً تعتاده وتألفه. لكن الإنسان يبحث عن سبل جديدة، وطرق غير معتادة، يسلكها في بحثه عن تقدمه ورقيه.
إن داء النفاق هو الأشد خطورة وفتكاً في حياة الفرد والمجتمع من أي داء آخر ظاهر، إنه يشوه الحقيقة، إنه حقيقة من حقائق الحياة المرة المؤلمة، فما أشبهه بداء السرطان، الذي يتسلل إلى أعضاء الجسم ناعماً سلساً إلى أن يتمكن ويستفحل، فيدمر النسيج والبنيان الاجتماعي ويفككه، فتصبح من الصعوبة بمكان مكافحته أو علاجه، إنه لمن المهول المفزع أن ترى النفاق والرياء والخداع والأباطيل تمتد على مسرح الكون، وأن تستبد بميدان الحياة كله، إن الأشباح الشنيعة التي تحمل تلك المعاني، تفوقت على تلك المخلوقات الشريفة التي نسميها الفضائل، إن المرء ليصدم اليوم حين يرى الناس يسيرون على خلاف ما كان يُظَن، وأن الحياة تجري لمقادير غير ما كان مقدَّراً لها، إنه لمن المفزع أن السجايا التي كنا نظنها من صفات البشر إنما هي لمخلوقات خيالية تبصرنا ولا نبصرها وترانا ولا نراها.
غارات من الحزن تجتاحني، وأمواج مرهوبة تضربُ جرفي الحَطيم، أتساءل في هذه الحياة، من هو القوي، ذاك الذي يخضع لنواميس الحياة من الرياء والظلم والنفاق، فيخدع ويظلم، أم ذاك الذي يحتقرها في قوانينها ويعيش تحت راية مبادئ تنسجها تصوراته وخيالاته الراقية؟
أتساءل لماذا يفوز المنافق ويدحر الصادق؟
أيها المنافقون كونوا كما أنتم، عيشوا على غير حقيقتكم، إنكم أموات نافقون لو تعقلون، إنكم معاقبون ﺑﻤﺎ ﺗﺤﻔﻈﻪ ﺻﺪور اﻟﻨﺎس ﻣﻦ اﺣﺘﻘﺎر ﺣﻘﻴﻖٍ ﺑﺄﻫﻞ اﻻﺣﺘﻘﺎر، إنه لألمٌ حديد ﻋﻨﺪ ﻣﻦ ﻳﺸﻌﺮون ﺑﻌﻘﺎﺑﻪ، أيها المنافقون موتوا بعتمتكم وسوادكم، إنكم لا تبصرون.