عام ١٩٩٢ فرضت نفسي ضيفاً ثقيل الظل على الشاعر مظفر النواب في ركنه الأثير في مقهى الهاڤانا في دمشق… قلت له مرحباً أريد الحديث معك، فأدهشني ترحابه، و بساطته… قرأت له شيئاً من كتاباتي، فأستحسن بعضاً، و نصحني أن أتخلى عن بعضها، لأنها لا تشبهني، كما قال.
تحدثنا بعدها عن الشعر كثيراً، و عن السياسة قليلاً، أبديت إعجابي من دون مواربة بإنتاجه باللهجة العامية، و قلت له أنا أفضله على ما كتبه بالفصحى، فابتسم، و لم يعلق… قبل أن أغادر، سألته ماذا ينصحني. فقال بهدوء: لا تحب سُلطة، و لا تخضع لسُلطة، و لا تمتدح سُلطة. السُلطة، أي سُلطة، وجدت كي يلعنها أمثالنا.
حين قال أمثالنا، أحسست بأن "الكبير" مظفر يضعني في مقام واحد معه، لكن ربما خيبت ظنه فيما بعد. لأسباب يطول شرحها.
التقيت مظفر النواب بعدها بضع مرات، في سهرات نظمها أصدقاء مشتركون، و كنا نسهر و نسكر و نغني. لكني، و رغم طلبه، لم أستطع مرة أن أناديه: أبو عادل، كما يفعل الآخرون، كنت أناديه الأستاذ. و بصراحة كنت أحيانا أحسد الآخرين لأنهم كانوا يمتلكون الجرأة لينادوا مظفر النواب باسمه مفرداً أو بلقبه "أبو عادل". و كنت أتساءل: كيف يمكن أن ينادى "الأستاذ" هكذا ببساطة.
و ربما حال هذا التفصيل الصغير من أكون أحد أصدقائه.
أحب كثيراً مقالتي "المرأة في شعر مظفر" قال إني قاربت شيئاً لا يقاربه من يبحثون في شعره عادة. و احتفظ بنسخة من مجلة "الطليعة الجديدة" التي نشرت فيها المقالة، وقتها.
كان ماهراً في سرقة الجو، يسحر صبية في العشرين، أو يتسيد سهرة غنائية نجمها مغن محترف. مظفر ليس شاعر هجاء، كما يقول عنه الكثيرون. هو مثقف، رومانسي، و يروي النكات، و يصنع سَلَطة لذيذة، و يكره السُلْطة، أية سلطة. حتى سُلطة الوقت. فقلما سأل عن الساعة.
آخر لقاء جمعني بالأستاذ مظفر النواب، كان متعباً، كان ذلك قبل الثورة بقليل قال لي بألم: أي عمر هذا!!! لا أستطيع أن أعود لأعيش في العراق.
أعلم أن الأستاذ مظفر النواب مريض منذ سنوات، لكني، للأسف، لا أستطيع الاطمئنان عليه، و لا سؤاله عما يجول في خاطره الآن… مظفر النواب ليس شاعرا عادياً، بل ظاهرة تستحق التوقف عندها مطولاً. و هو عنوان مرحلة مضت بكل ما فيها.