غزة... برلين الشرق الأوسط وهندسة ما بعد الحرب

في ظل التحولات العاصفة التي يشهدها الإقليم، تبدو غزة اليوم أكثر من مجرد بقعة جغرافية منكوبة أو ساحة صراع، بل تحوّلت إلى نقطة ارتكاز لإعادة رسم ملامح الشرق الأوسط. القرار الدولي الأخير (2803) الذي صوّت عليه مجلس الأمن، والإجماع الضمني بين القوى الكبرى، لا يعكس فقط رغبة بوقف إطلاق النار، بل يحمل بين سطوره مشروعًا سياسيًا أمنيًا يتجاوز غزة إلى الإقليم برمّته.


التوصيف الذي يراه البعض مبالغًا فيه، بأن غزة أصبحت برلين الشرق الأوسط، هو في حقيقته توصيف عميق. فكما كانت برلين عنوانًا لصراع عالمي ثم مفصلًا لإعادة ترتيب النظام الدولي، فإن غزة اليوم تمثل بوابة لإطلاق رؤية جديدة للمنطقة، تُرسم في الغرف المغلقة ويُعاد تشكيلها تحت لافتات الاستقرار والإنسانية.


اللافت أن مشروع القرار الأمريكي، رغم معارضة فصائل ومحللين ودول، مرّ بدعم أو صمت القوى الكبرى، بما فيها روسيا التي امتنعت عن التصويت رغم طرحها مشروعًا بديلًا. وهذا بحد ذاته مؤشر على توافق استراتيجي ضمني، يرى أن استمرار الفوضى في غزة لم يعد خيارًا مقبولًا.


التحول الأبرز هو في نوعية التدخل: قوة دولية للاستقرار، إدارة إنسانية عابرة للسيادة، وغرف عمليات متعددة الجنسيات تتحكم بالمساعدات والخدمات. هذا النموذج الذي يُقدّم كحل، مما يستدعي موقفًا ناضجًا من كافة الكل الفلسطيني لضمان ألا يتحول ما بعد الحرب إلى مرحلة الإخراج من المعادلة.


إن الدور السعودي اللافت في تعديل صيغة القرار، ليشمل إشارة واضحة لقيام دولة فلسطينية، يشير إلى تحرك عربي وازن في لحظة مفصلية، تسعى فيها قوى إقليمية كبرى لضبط التوازن في ظل الهيمنة الأميركية–الإسرائيلية على مخرجات ما بعد الحرب.


الرسالة التي ينبغي التقاطها اليوم: الدنيا تغيّرت. ونحن لا نعيش فقط مرحلة وقف إطلاق النار، بل لحظة إعادة التأسيس. وكل من لا يقرأ الواقع الجديد بأدوات جديدة سيتجاوزه الزمن. المطلوب الآن فهم دقيق، ووعي سياسي، ونقاش حقيقي حول شكل غزة الجديدة قبل أن تُفرَض علينا مفاتيحها.


العالم يتغير من حولنا، والتاريخ يُكتب في غزة. المطلوب اليوم من اجميع ألا يقرأوا المرحلة بأدوات الأمس. هناك منتدى غزة جديد يتشكل، دوليًا، سياسيًا، وإنسانيًا. والسؤال الأهم: هل نمتلك أدوات الفهم والمشاركة والتأثير، أم نكتفي بدور المتفرج؟ غزة تستحق أكثر من ذلك.

سعيد محمد أبو رحمة

كاتب ومحلل سياسي