في تموز من عام 2019 حضرت في باريس مع مجموعة من السياسيين والقيادات المحلية والعشائرية وممثلي المجالس المحلية ورشة عمل نظمتها "مجموعة شيخ" حول الحوكمة في الشمال السوري وتحديات تحقيقها وكان السؤال الجوهري ما هي التحديات والمعوقات أمام الحوكمة في الشمال السوري ؟
رغم صعوبة الظروف آنذاك من فصائل متناحرة وحكومتين في الشمال، وتدخلات خارجية، وعشرات المنظمات وحرب وقصف مستمر إلّا أنه تحقق بعض النجاح بالإرادة والعمل المشترك، وهو ما يدفعنا للتفاؤل عند تناول مفهوم الحوكمة وأهميته في سورية اليوم.
تُعدّ الحوكمة من أهم المفاهيم الحديثة في علم الإدارة والسياسة، إذ تمثل مجموعة من المبادئ والآليات التي تهدف إلى ضمان الشفافية والمساءلة والعدالة في إدارة الدولة ومؤسساتها. وهي ليست مجرد إطار إداري، بل رؤية متكاملة لإدارة الحكم تقوم على المشاركة والمحاسبة واحترام سيادة القانون.
تزداد أهمية الحوكمة في سورية بعد ثورة عام 2011، حيث أدى طول أمد الصراع والانقسامات والفساد إلى تآكل مؤسسات الدولة وفقدان الثقة بين المجتمع والسلطة. ومن هنا تطرح الإشكالية الرئيسة للمقال :
كيف يمكن بناء نظام حوكمة رشيد في سورية الجديدة في ظل الواقع السياسي المعقد والانقسامات العميقة؟
الإطار النظري للحوكمة
تُعرّف الحوكمة بأنها النظام الذي تُدار به مؤسسات الدولة والمجتمع على نحو يحقق الشفافية والمساءلة والمشاركة والكفاءة والعدالة وسيادة القانون.
وتختلف الحوكمة عن الإدارة التقليدية بكونها لا تركز على تنفيذ القرارات فحسب، بل على ضبط آليات اتخاذ القرار نفسها، وتفعيل الرقابة المتبادلة بين السلطات والمجتمع.
في دول مثل الأردن ومصر، جرت محاولات لإدماج مفاهيم الحوكمة في الأجهزة الحكومية عبر برامج “الإصلاح الإداري” و”الحكومة الإلكترونية”، إلا أن هيمنة القرار التنفيذي ما زالت تحد من فعالية تلك الجهود. وفي الحالة السورية قبل الثورة كانت الحوكمة تُمارس بشكل صوري دون استقلال حقيقي للمؤسسات.
الواقع السياسي في سورية
اتسم النظام السياسي في سورية لعقود بمركزية القرار وتداخل السلطات، وإدارة الحزب الواحد مما أضعف مؤسسات الرقابة والمساءلة وألغى بشكل كامل التعددية السياسية.
بعد عام 2011، تغير المشهد كلياً، إذ أدت الثورة وطول أمدها إلى تفكك السلطة المركزية، وتعدد مناطق السيطرة (النظام، المعارضة، الإدارة الذاتية الكردية، وقوى أخرى)، مما خلق بيئة سياسية مشتتة تفتقد إلى وحدة القرار وإلى الحد الأدنى من الثقة بين المكونات.
تجارب مشابهة في المنطقة تظهر أن الأنظمة المركزية عندما تتعرض لاضطرابات مماثلة تواجه أزمة حوكمة عميقة ونستعرض هنا نموذجين من دول الجوار:
- في العراق بعد عام 2003، أدى سقوط النظام المركزي إلى تعدد القوى السياسية والطائفية، مما أضعف المؤسسات الرسمية وأنتج فساداً ممنهجاً رغم وجود انتخابات شكلية.
- وفي لبنان، وجود نظام ديمقراطي شكلي رهيناً للمحاصصة الطائفية جعل الحوكمة رهينة للتوازنات السياسية وليس للكفاءة أو القانون.
وهذه المقارنات توضح أن المشكلة ليست في غياب المؤسسات فقط، بل في غياب الإرادة السياسية لتفعيل مبادئ الحوكمة.
تحديات تطبيق الحوكمة في سورية
يواجه تطبيق الحوكمة في سورية جملة من التحديات البنيوية والسياسية العميقة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- ضعف الاستقرار السياسي والأمني:
لا يمكن بناء مؤسسات حوكمة فعالة في ظل استمرار النزاع المسلح وغياب الأمن، فالتجارب في العراق وليبيا تؤكد أن غياب الأمن يعيق كل إصلاح مؤسسي مما يتطلب إعادة هيكلة مؤسسات الدفاع والداخلية لتحقيق استقرار يتيح بناء مؤسسات فعالة.
2- تعدد السلطات والولاءات:
وجود مناطق نفوذ متعددة وقوانين مختلفة يعطل وحدة الدولة ويجعل الرقابة والمساءلة مستحيلة.
3- الفساد الإداري والمالي:
ورث النظام الجديد في سورية وزارات ومؤسسات ينخرها الفساد وقوانين تعيق المحاسبة وهو من أكثر التحديات تجذراً، إذ تشير تقارير دولية إلى أن سورية تقع بين أكثر الدول فساداً في العالم، مما يعرقل أي محاولة للإصلاح.
4- ضعف مؤسسات الدولة وفقدان الكفاءات:
خلال العقد الأخير قبل التحرير شهدت سورية هجرة الخبرات وانهيار البنية الإدارية للمؤسسات مما ترك فراغاً كبيراً في مؤسسات الخدمة العامة.
5- تدخل القوى الخارجية:
يجعل القرار الوطني مرهوناً بإرادات غير سورية، كما حدث جزئياً في العراق واليمن.
6- انعدام الثقة بين المجتمع والسلطة:
سياسات النظام البائد وممارساته القمعية أضعفت روح المشاركة السياسية والرقابة المجتمعية مما أدى إلى تآكل الثقة بين المجتمع والدولة.
7- ضعف المجتمع المدني والإعلام:
الإعلام المستقل والمجتمع المدني يشكلان ركيزتين أساسيتين في الحوكمة، وتفتقد سورية لكليهما منذ استلام حزب البعث الحكم في سورية.
متطلبات بناء الحوكمة في سورية
إعادة بناء منظومة الحوكمة في سورية تتطلب مقاربة شاملة تدمج بين الإصلاح السياسي والإداري. ومن أبرز المتطلبات:
1- إرساء الشفافية والمساءلة وذلك عبر قوانين تضمن الوصول إلى المعلومات ومحاسبة المسؤولين. ولتونس تجربة بعد ثورة 2011 شرّعت من خلالها قوانين “الحق في النفاذ إلى المعلومة” لدعم الشفافية.
2- إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية بعيداً عن الولاءات الحزبية والطائفية والفصائلية، وتعيين الكفاءات وفق معايير موضوعية.
3- توسيع المشاركة السياسية من خلال فتح المجال للأحزاب والمجتمع المدني للمشاركة في صنع القرار.
4- استقلال القضاء شرط أساسي للحوكمة وتحقيق العدالة.
5- تمكين المجتمع المدني والإعلام المستقل وهو أساس الرقابة المجتمعية.
6- إصلاح القوانين الناظمة للإدارة والانتخابات بحيث تعزز التعددية وتحد من المركزية الشديدة التي عطلت مؤسسات الدولة سابقاً.
7- تبني رؤية وطنية جامعة عبر حوار وطني شامل يضع أسس دولة المواطنة والمساءلة بعد أي تسوية سياسية.
آفاق الحوكمة في المستقبل السوري
رغم صعوبة المشهد الحالي ، فإن التجارب المقاربة تؤكد إمكانية الإصلاح متى توفرت الإرادة السياسية والرؤية الوطنية.
يمكن للحوكمة أن تكون المدخل الحقيقي لإعادة بناء الدولة السورية على أسس العدالة والمواطنة، كما فعلت رواندا التي تحولت من دولة منهارة إلى نموذج في الحكم الرشيد خلال عقدين.
المرحلة القادمة تستلزم شراكة فاعلة بين الدولة والمجتمع والمنظمات الدولية لترسيخ ثقافة الشفافية والمساءلة، فالحوكمة ليست ترفًا إداريًا بل ضرورة لبقاء الدولة واستقرارها.
الخاتمة
إن بناء الحوكمة في سورية هو رهان على مستقبل الدولة والمجتمع. فهي ليست شعارًا إصلاحيًا بل مشروعًا وطنيًا لإعادة الثقة بين المواطن والسلطة.
ورغم ضخامة التحديات، فإن الإرادة الوطنية قادرة على تجاوزها متى ما توافرت بيئة سياسية منفتحة ورؤية إصلاحية جادة.
قد يكون الطريق طويلًا، لكنه الطريق الوحيد نحو بناء دولة عادلة مستقرة تتسع لجميع أبنائها.