الدولة الدينية والدولة اللائيكية العلمانية صنوان والشرع يحرمهم

تعقيبًا على كلام مقابلة رجل أعمال والذي أفلست شركته وملاحق بالضرائب ويحاضر علينا بالسياسة والوطنية، وكما يُقال: "من أتى بغير فنه أتى بالعجائب"، فقد كانت مقابلته بمثابة المغناطيس التي كشفت عن الفكر المثقوب للكثير ممن ينعت نفسه مثقفًا ونخبويًا. فالمدعو حاول جاهدًا إخفاء أية إيجابية للعهد الجديد مع الحرص على إظهار أي سلبية، وبالمقابل أخفى أي سلبية للنظام البائد والفلول والانفصاليين الذين يستعينون بالصهاينة وغيرهم بوضح النهار، مما يُظهر أنه مُكلف بمهمة معينة لتشويه العهد الجديد. ولو تكلّم بإنصاف لاحترمه الشعب، ولكنه كما يُقال: "سكت دهرًا ونطق كفرًا"، وقد حرق نفسه للأبد بالشارع السوري، وليته تشبّه برجالات العهد السوري بعد الجلاء من الفرنسي، عندما تبرع أحدهم بميزانية سورية كاملة، والمدعو لم يتبرع بغير تشويه حكومة الثورة، بينما لم يتبرع بدولار واحد لشعبه ووطنه!

الأمر الآخر، فإن الدولة الدينية التي تكلم عنها في القرون الوسطى والتي أدت لإبادة ثلث سكان أوروبا، تعني تحالف رجال الدين مع الحاكم ضد الشعب، وإلغاء أي تنوع وتعدد ديني، وهذا لم يحصل بتاريخ الشرع الإسلامي منذ وثيقة المدينة التي نصت على تعدد الأديان حتى يوم الناس هذا، مرورًا بالخلافة الأموية بالشام والأندلس، والخلافة العباسية، حيث نصت وثيقة المدينة أن يهود بني عوف أمة مع المسلمين، وكذلك العهدة العمرية لنصارى بيت المقدس بحماية كنائسهم، ولا يزال مفتاح كنيسة القيامة بالقدس بعهدة عائلة مسلمة باتفاق النصارى بينهم بسبب خلافهم مع بعض، منذ دخول صلاح الدين القدس.

والأمر الأهم أن الشرع يهدف إلى حرية الأديان والعبادات كسلوك، ولكنه لا يتساهل بالتلاعب بالأخلاق ومصالح الناس، لأن روح الفقه الإسلامي إقامة الأخلاق بمختلف مجالات الحياة التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها. بينما المدعو يدعو لإقامة ما يسمى الدولة الحديثة، والتي أهم ميزاتها إلغاء الأخلاق وتشريع البراغماتية والاحتكار والغش، وقد أثبتت فشلها، والعالم اليوم يتكلم عن دولة ما بعد الحداثة أو ما بعد البعديات، أي الرجوع للدين كضابط أخلاقي لسلوك المجتمع والدولة، بعدما أتعبت أفكار الحداثة الإنسان الحديث وسلعنته وشيّأته كأشياء وحيدة الاستعمال.

فهل برأي المدعو والمطبلين له أن سورية بحاجة لتكرار تجربة انعدام الأخلاق باسم الحداثة؟ فالحقيقة أن الشرع السماوي يشجع أي فكرة ومشروع يؤدي لرفاهية الإنسان ويحث عليها ما لم تتعارض مع الأخلاق الفطرية المتفق عليها بين البشر.

تمنينا من المدعو وأمثاله الحفاظ على ماء وجههم وكرامتهم، واحترام دماء وتضحيات الشعب السوري، وعدم السعي لإعاقة نهوض سورية بتلفيقات وتخريفات يخجل منها الطفل، بينما قدمت السلطة الجديدة نموذجًا بالتسامح والحرية لم يعرف التاريخ البشري المعاصر مثيلًا له بأي دولة مرت بنفس تجربة الشعب السوري، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا موتور.

ولا شك أننا نسعى للوصول بالحياة السياسية إلى نموذج يُقتدى به العالم أجمع، وهذا يحتاج سنوات وليس أشهر، وخاصة أن سورية خارجة من تجربة نصف قرن من التصحر والاستبداد السياسي، والجاهل من يعتقد أن هذه التغيرات ممكن أن تحصل خلال أسابيع وأشهر، قبل استتباب الأمن والتخلص من الفلول والشبيحة الذين لا يزالون يتآمرون على الشعب السوري، وليس السلطة فحسب. وعن أي مشاركة يتكلم المدعو؟ فجميع أطياف الشعب السوري تشارك حسب موقعها ومكانتها. أم يريد المحاصصة بالسلاح والجيش لنرجع لعهد انقلابات الخمسينات حسب توجيه السفارات؟ فذلك زمان ولى بلا رجعة، والشعب مستعد أن يقدم مليون شهيد ولا يكرر فوضى الانقلابات.

وختامًا، يزعم المدعو: إن لم نعمل محاصصة، والتي عبر عنها بالمشاركة، فالأمور لا تطمئن ولن يعترف العالم بالحكومة. وردًا عليه، إذا كان يزعم أنه ابن الثورة، فنفس الأسطوانة قالوها للمعارضة: إذا لم تفاوضوا النظام وتضموا منصة موسكو والقاهرة وهيئة التنسيق وتدخلوا باللجنة الدستورية، لن نعترف بالمعارضة. وعندما رفضت الثورة هذه الأطروحات، أحضروا معارضة معلبة ونفذت ما يريدون، وكانت النتيجة أن استخدموا المعارضة لغسل جرائم وإرهاب النظام لإعادة التطبيع معه. واليوم يريدون باسم المحاصصة أو "المشاركة" كما يسمونها، تقويض بنية الدولة العميقة من خلال هؤلاء للانقلاب عليها، والمجيء بالفلول والانفصاليين بواجهة جديدة لإعاقة نهوض سورية.

وليَعلم المدعو وأمثاله: لو تم تعيين شبيح رئيسًا لسورية، لن يدعموا سورية، بل غايتهم بذلك منع نهوض سورية وتقدمها. لذلك، الشعب يعرف هذه الحقيقة وسيصبر على الحصار الاقتصادي سنوات، وسيرضخ العالم مستقبلًا لصمود الشعب، ولن يفرط بأمنه وثورته باسم المحاصصة لتعجيل انهيار السلطة.

فخيطوا بغير المسلة، وكل ما يحصل اليوم هو لصالح الشعب السوري، فكل يوم يتم كشف حقيقة وأوراق الكثير ممن زعم وقوفه ضد النظام البائد، فإذا بهم نسخة كربونية عنهم، وسيزولون كما زال النظام البائد.



د. موسى الزعبي

سياسي وباحث بتطور المجتمع المدني