يقف النظام السوري الجديد على حبل مشدود في محاولة تثبيت أركان حكمه داخليا بتحقيق الأمن، والسلم الأهلي، والعدالة بقصاص كل من تلوثت يداه بدماء السوريين، وتفعيل عجلة الاقتصاد والسعي حثيثا برفع العقوبات التي كانت مفروضة على النظام المخلوع، وإعادة البناء لكل ما دمره النظام البائد، والاستعداد لعودة حوالي 8 ملايين لاجئ من الخارج، وأربعة ملايين نازح، ورفع مستوى معيشة المواطن، وبناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة، وعلى رأسها الجيش السوري بضم كل الضباط والعناصر المنشقة عن جيش النظام المخلوع، وصياغة دستور دائم للبلاد يأخذ بعين الاعتبار كل الخصوصيات لجميع مكونات الشعب السوري، وفتح الباب أمام تشكيل الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، وضمان حريتها في العمل، وملفات عديدة مفتوحة تجعل أي حكومة يتم تعيينها من عتاة التكنوقراط أمام صعوبات جمة يتوجب عليها التغلب عليها. لكن الأصعب من ذلك أيضا هو تحقيق سلامة الأراضي السورية وسيادتها وحمايتها من التقسيم، ومن مخططات القوى الخارجية، وخاصة المحيطة بها أو التي كان لها نفوذا فيها سابقا والتي تتربص بها شرا، وعلى رأس القائمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهنا تكمن عقدة النجار.
التحالف مع تركيا
لا يمكن لسوريا التغاضي عن الجار التركي فعلاقتها مع هذا الجار تعود إلى عام 1516 التي دخلها بعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق بقيادة السلطان سليم الأول، (والتكية التي بناها في دمشق ماثلة إلى اليوم تؤرخ لهذا الحدث،) ومكث في سوريا لغاية سقوط السلطنة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان يعتبرها (سوريا الكبرى) درة تاج طوب قابي. ورغم الخطأ الكبير الذي ارتكبه العرب في تحالفهم مع الدول الغربية المعادية لها والذي جر عليهم ويلات وعد بلفور، وسايكس بيكو، وقرارات سان ريمو بالانتداب، بقيت تركيا الملاذ الأخير لتشتت الأنظمة السورية المتعاقبة بين تحالفات عربية، وولاءات خارجية وضعها في خضم تقلبات عنيفة، وكان النظام البائد قد جلب العداوة مع تركيا بدعمه لحزب العمال الكردستاني قبل أن يتخلى عنه في معاهدة أضنة في العام 1994. والتخلي عن المطالبة بلواء اسكندرون الذي قدمته فرنسا لتركيا كهدية لثنيها عن الدخول في الحرب العالمية الثانية كحليف للمحور الألماني الإيطالي، كما تخلى سابقا عن الجولان في حرب النكسة. مع اندلاع الثورة السورية فتحت تركيا أبوابها أمام اللاجئين السوريين (حوالي 4 ملايين سوري)، ودخلت تركيا كطرف في المعادلة السورية مع القوى المتحالفة مع النظام المخلوع أي روسيا وإيران، لكن على عكس هاتين القوتين كانت تركيا تدعم المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وخاضت معارك معها لتحرير أكثر من مدينة من قوات سوريا الديمقراطية «الكردية» المدعومة أمريكيا. ورغم تخلي الدول العربية (ما عدا قطر) عن الشعب السوري وثورته، والتطبيع مع النظام البائد، حافظت تركيا على موقفها من المعارضة السورية، وفاجأت العالم بدعمها لها لإسقاط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. هذا الموقف وضعها في مواجهة مباشرة مع كل من روسيا، وإيران، وخاصة دولة الاحتلال الإسرائيلي التي كانت تربطها مع نظام المخلوع علاقات مصالح متبادلة منذ تخلي والد المخلوع حافظ الأسد عن الجولان السوري، ولم يرق لها سقوطه بتاتا فدأبت على تنفيذ سلسلة من الاعتداءات المتكررة والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض المكونات الدرزية والكردية ضد الإدارة الجديدة.
المواجهة مع إسرائيل
في حمأة أحداث غزة والضربة التي تلقتها دولة الاحتلال بعملية «طوفان الأقصى» والمستمرة إلى اليوم، تلقت الضربة الثانية بسقوط النظام السوري الذي كان يؤمن وجودها في الجولان المحتل بعد اتفاق فصل القوات في العام 1974 إذ منذ ذلك التاريخ لم تطلق رصاصة واحدة باتجاه الأراضي المحتلة، ولا حتى محاولة واحدة لتحرير الجولان عسكريا، أو دبلوماسيا، بل على العكس كانت إسرائيل تقصف وتنتهك الأراضي السورية باستمرار بعد اندلاع الثورة السورية لتدمير منشآت حزب الله والحرس الثوري الإيراني وفصائل أخرى جلبها بشار الأسد المخلوع لحماية نظامه من السقوط، ورغم كل الانتهاكات لم يكن رد النظام سوى كلام في كلام. واليوم بعد سقوطه تستمر دولة الاحتلال بضرب مراكز الجيش السوري أيضا دون رد من الإدارة الجديدة التي لا ترغب بفتح جبهة مع العدو تؤدي إلى فوضى كبيرة في البلاد لا يحمد عقباها، بل حتى لا تمتلك الإمكانيات العسكرية والمادية لمواجهتها، وهنا سيأتي الدور التركي في تأمين الحماية بتوقيع معاهدة مع الإدارة الجديدة. ويتم الحديث عن بناء قواعد عسكرية تضم دفاعات جوية متطورة تم بحثها في زيارة الرئيس أحمد الشرع لأنقرة، وهذا التحالف بين دمشق وأنقرة يجعل هذه الأخيرة في مواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال التي تخشى عودة بناء الجيش السوري والمطالبة بتحرير الجولان، وقال مصدر أمني إسرائيلي إن «المواجهة بين تركيا وإسرائيل في المنطقة السورية أمر لا مفر منه نتيجة محاولة أردوغان المساس بحرية العمل الإسرائيلية، وفي منتصف يناير/كانون الثاني طالب أردوغان إسرائيل إنهاء الأعمال العدائية التي تمارسها في سوريا، وإلا فإن النتائج التي ستظهر ستضر بالجميع. وهنا تكمن عقدة النجار الثانية. فتركيا العضو الثاني في حلف شمال الأطلسي تجعل إسرائيل أن تعد للعشرة قبل التحرش بها خاصة وأن إدارة الرئيس دونالد ترامب تسعى إلى حصر المواجهة مع إيران فقط، وعدم فتح جبهات أخرى، والعمل حثيثا على تحقيق عمليات تطبيع تشمل أكثر من دولة عربية وعلى رأسها العربية السعودية، وقد صرح ترامب بأن أمر سوريا قد فوضه لتركيا، وتحدث المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف قائلا بأن سوريا ولبنان باتا أقرب من أي وقت مضى للتطبيع مع إسرائيل. ويبدو أن الإدارة الأمريكية التي أرسلت قائمة بالشروط التي تطالب فيها الإدارة الجديدة في سوريا تحقيقها تريد أن تربط رفع العقوبات أيضا بمسألة التطبيع، وتقول بعض المصادر الفلسطينية بأنها أيضا طلبت من دمشق أن تمنح الجنسية السورية للاجئين الفلسطينيين (حوالي 600 ألف لاجئ فلسطيني يتمتعون بكل حقوق المواطن السوري ما عدا الجنسية لحماية حق العودة، وبعملية التجنيس ستسقط عنهم بطاقة الأنروا التي تضمن لهم هذا الحق)، وهذا يضع الإدارة الجديدة أيضا أمام عقدة نجار ثالثة يصعب حلها. وهكذا يبدو المشهد بأن الوضع في سوريا يتطلب الكثير من الإدارة الجديدة الكثير من العمل، والكثير من الحذر، وأكثر من ذلك التعامل مع القوتين العظميين اللتين تحتلان أيضا مراكز في سوريا ولا ترغبان حاليا بالتخلي عنها.
كاتب سوري