قبل عام 2011 في سوريا، لم نكن ننظر إلى روسيا إلا من خلال أدبائها؛ من شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة ومسرح.
كنّا نقلِّد مدرسينا المتباهين بحفظ واستعراض أسماء الروائيين والشعراء الروس، ونقرأ ما نستطيع قراءته ونبدأ بعد ذلك بمحاكاة طريقتهم في الكتابة وقدرتهم على الغوص في أعماق الشخصيات القصصية أو الروائية أو المسرحية، وعلى ذلك تشكَّلت معرفتنا الأولية.
لم نكن نعلم حينها أنَّ كل الأسماء الكبيرة في الأدب الروسي التي تأثرنا بها قد سبقت عصر "الاتحاد السوفييتي"، بل ولا علاقة لهم بـ"اتحاد الكُتَّاب السوفييت" الذي يشابهه في سوريا "اتحاد الكتاب العرب" المتماهي مع سلطة الأسد، وصاحب الماكياج الأدبي والفكري والمؤوِّل الدائم لسلطة الاستبداد في سوريا.
الشيء الغريب والمؤسف أنَّنا طوال تلك الفترة لم نستطع أن نميز بدقة بين الأدب الروسي في عصره الذهبي وأدب "الاتحاد السوفييتي"، وقد كنّا نظن - ونحن مخطئون بالطبع – أنَّ أدباء القرن التاسع عشر هم نفسهم صنيعة "الاتحاد السوفييتي" بعد عام 1917
تكمن الغرابة أيضاً في أنَّ أغلب المدرسين والمثقفين الأكبر منّا سناً، كانوا يَنظرون إلى الأدب الروسي المنتمي إلى العصر الذهبي على أنه نتاج ما بعد عام 1917، بمعنى أنهم كانوا يصنفونه من أدب "الاتحاد السوفييتي"، وحتى القلة منهم الذين يعرفون الخارطة التاريخية للأدب الروسي، كانوا يبتعدون عن المقارنة بين الفترتين ولا يصرحون بذلك؛ ربّما كسلاً أو مداراةً وخوفاً من استفزاز السلطة الأمنية التابعة لنظام الأسد الذي أدار البلاد على الطريقة السوفييتية التي تغيب فيها التفاصيل، فبقيت حالة الالتباس موجودة ومتناقَلَة من جيلٍ إلى جيل.
تلك الحقيقة المعرفية الناقصة لم تقتصر على الأدباء فقط، بل انطبق ذلك أيضاً على من برز اسمه في العلوم التطبيقية في ذاك العصر الروسي: "ديميتري مندليف" مثلاً، العالم الكيميائي صاحب جدول التصنيف الدوري للعناصر الكيميائية، كان يحدثنا عنه بإسهابٍ طويل مدرِّسُ الكيمياء في مدرستنا الثانوية، ويصنفه على أنه من "علماء الاتحاد السوفييتي" ولم نكن نعلم أنه توفي قبل ولادة "الاتحاد" بعشر سنوات.
كان الأدب الروسي المترجَم نافذتنا الوحيدة في سوريا إلى العالم الآخر، العالم المتحرِّك النابض الذي لا يشبهنا، وبمقدار ما كنَّا نقرأ من مؤلفات مترجَمة عن الأدب الروسي كان يُنظَر إلينا على أنّنا "مثقفون" وسائرون في طريق العبقرية والإبداع اللامتناهي!
هذا ما كان محدداً بعناية في إيديولوجيا التلقين البعثي في مدارس سوريا الأسد، التي حرص نظامها الحاكم على استنساخ التجربة السوفييتية ومحاكاتها، بدءاً بالحكم العسكري الشمولي وإدارة الأفرع الأمنية للموارد والثروات، مروراً باللباس العسكري الموحَّد للتلاميذ، وإخضاعهم لدورات صاعقة وقفز مظلي، وليس انتهاءً بالتزكية الأمنية المسلّطة على الموظفين في القطاعات الحكومية وعلى من يود الانتساب أو البقاء في اتحاد الكتاب العرب، ومراقبة كل حرف وكلمة تُقال في الأمسيات والمهرجانات الأدبية، فضلاً عن ملاحقة الصحافة الحرة، واغتيال من يكتب الحقيقة.
لكن طائرات بوتين وغزوه لسوريا عام 2015 جعلت الكثير منا يفيق من غيبوبته الرومانسية حول روسيا، وأجبرت الكثير ممَّن نجا من القصف على أن يجري عدة مراجعات تاريخية أدبية وفكرية حول مرجعية الأدب الروسي الذي لم يبرز عالمياً إلا بعد انفتاحه على الغرب الأوربي، منذ عهد بطرس الأول عام 1682م، حيث أدخل الطابع الغربي في الحياة الروسية].
مَنْ هم أكبر منَّا سنّاً لم يبذلوا جهداً كبيراً في الاكتشاف؛ لأنَّ اتحاد كتاب العرب في سوريا هو نسخة شبيهة ومماثلة لـِ"اتحاد الكتاب السوفييت"، فالتزكيات الأمنية نفسها والعقلية الإدارية المركزية المتعالية ذاتها، حيث أدلجة الإبداع ومروره بمسارات مدروسة.
وكيف لا يكون اتحاد الكتاب في سوريا بذلك المقدار من الانفصام عن الواقع، ونظمه الإدارية ورؤيته البعيدة عن الواقع المُعاش ماتزال مأخوذة عن تجربة "الاتحاد السوفييتي" الكئيب!
بالعودة إلى المراجعات الأدبية، لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ أول كتاب أدبي لاقى نجاحاً كبيراً بعد تشكيل "الاتحاد السوفييتي" هو المجموعة القصصية الأولى لميخائيل زوشينكو عام 1922، وهي مجموعة قصص تنتمي للأدب الساخر!
ذاك الكاتب المبدع، ميخائيل زوشينكو، حُوكِم من قبل السلطات الأمنية المراقبة لِـ "اتحاد الكتاب السوفييت" وتم تخوينُه وفصلُه، وحُظرت كتبه من النشر، وبقي محارَباً ومُحَجَّماً، وتمَّ اغتيالُه بشكلٍ معنوي إلى أن مات قهراً بالسكتة القلبية!
المفارقة كانت في تعطُّش الناس للضحك تحت ظل تلك السُّلطة السوفييتية التي تكره الابتسامة وتعشق الدم، ولذلك جاءت قصص زوشينكو في مكانها المناسب محققة نجاحاً كبيراً في وقتها؛ كونها تنتمي للأدب الساخر من السلطة والواقع الحزين والمضحك.
بالنسبة لنا نحن - السوريين- الذين كنا نازحين وهاربين من طائرات بوتين، نستطيع أن نلمس تشابهاً كبيراً بين [قصص ميخائيل زوشينكو، التي تحدثت عن عائلات الشقق المشتركة في ظل "الاتحاد السوفييتي"، وما مرَّ على آلاف العائلات السورية التي دُمِّرت بيوتها وهُجّر أهلها وأصبحوا مشردين يعيشون بشكلٍ مشترك في المخيمات، ضمن واقعٍ بائس مليء بالسخرية المرَّة].
كان مصدرُ القهر واحداً، وبمرجعية واحدة، سواء تمّ ذلك على يد الثنائي بشار وبوتين وطائراتهما أم على يد سلطة "اليوتوبيا الشيوعية" التي كنَّا نظنها قد انقرضت.
قبل عام 2011 لم تكن معرفتنا بالعالم تتجاوز حدود بلدنا الأم سوريا، فلم نكن قادرين على تفسير بعض الظواهر التي نُجبَر على المشاركة بها، من مسيرات ومناسبات قومية مؤيدة للقائد وأفعال القائد وآل بيته، الذين سميت البلاد باسمهم، ولم نكن محظوظين في معرفة أو إدراك أهمية حرية الكلمة أو حرية الصحافة.
أهلنا البسطاء مثلنا، كثيراً ما كانوا يشجعوننا على الاهتمام الشديد بالدراسة ومتابعة التحصيل العلمي، وكنّا رغم عبثيتنا حريصين على الاجتهاد ومتابعة القراءة في الهامش الأدبي المُتاح لنا في المدارس والمراكز الثقافية.
ذاك الهامش المُتاح لنا كان مليئاً بالكتب المترجَمة عن الأدب الروسي فقط، عن "دار التقدم" بموسكو، بمجلدات أنيقة مغلَّفة بعناية.
الكم الهائل المصدَّر إلينا من الكتب الأدبية المترجَمة، ساهم في خلق وتعزيز صورة إيجابية نمطية عن الروس، أولئك البعيدين عن سوريا جغرافياً.
المؤلفات المستعملة والجديدة للكتَّاب الروس كانت في متناول الأيدي في سوريا، تُباع في المكتبات وعلى الأرصفة قريباً من ساحة سعد الله الجابري في حلب، وبأسعار رخيصة في دمشق وحمص ودير الزور وبقية المحافظات السورية، وكان لابدَّ من اقتناء الكثير منها ووضعها على رفوف مكتباتنا الشخصية، وتأجيل قراءة الكتب الضخمة منها إلى موعدٍ آخر.
قرأنا عشرات الكتب الأدبية من الأدب الروسي المترجَم، وكنا حريصين على أن ندوِّن كلمات وجُمَل ديستويفسكي وأنطون تشيخوف وغيرهم على دفترٍ نحتفظ به؛ لنزينَ بها بدايات فصول مجموعاتنا القصصية البريئة التي نكتبها تقليداً للأدب الروسي، بل كنَّا في كل مرة نقرأ فيها عن معاناة الفلاح الروسي وصراعه من أجل لقمة عيشه، ترتسم أمامنا روسيا كـ"حمامة سلام" صديقة للشعب السوري، لكن الأمر لم يكن كذلك.
ثمَّ جاء عام 2011، العام الذي تغيَّر فيه كلُّ شيء، حيث بدأ الحراك الثوري السلمي في سوريا ضدَّ الاستبداد العسكري والأمني التابع لنظام الأسد الأب والابن المتحكم بالبلاد منذ نصف قرن، فكانت المفاجأة والخيبة مضاعفة علينا نحن السُّذَّج الذين كنا متأثرين بالأدب الروسي.
بدأ الدعم الروسي بأوامر من حكومة بوتين لنظام الأسد، منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي السوري، في آذار عام 2011، إذ سرعان ما أرسلت روسيا الكثير من الأسلحة والمستشارين وخبراء الإجرام والمرتزقة إلى سوريا، واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن أكثر من 16 مرة لصالح النظام السوري الدكتاتوري، وساندته عبر التصويت الدائم في مجلس حقوق الإنسان ضدَّ القرارات التي تدين وحشيته!
في 30 أيلول/ سبتمبر عام 2015 غزت القوات الروسية بلدي سوريا، وارتكبت الكثير من الجرائم ضدَّ الإنسانية، وقتلت آلاف المدنيين، بينهم أطفال كانوا يتابعون المسلسل الكرتوني الروسي الشهير (ماشا والدب).
في 24 شباط/ فبراير عام 2022 غزت القوات الروسية أيضاً أوكرانيا البلد المجاور لها، وتسببت في أزمة إنسانية جديدة!
بالطبع، لم تكن نظرتنا تجاه روسيا نظرة مثالية، ولكنني تساءلت:
ألم تشبع روسيا من كمية الدماء السورية التي أراقتها؟
لماذا لم تتأثر السياسة الروسية بالأدب الروسي القديم الذي أحببناه؟ ولماذا لم تتغير تلك العقلية التوسعية عند روسيا؟ أما آن أن يتخلصوا من كمية الحقد والعقلية السوفييتية القائمة على الغزو والقمع والتعذيب والقتل؟
وكانت الأسئلة معلَّقة دون إجابة!
صرتُ أتابع نشرة الأخبار وأنظر بألم إلى يوميات القصف على مدينة كييف الأوكرانية الجميلة، كأنني أنظر إلى مدينة حلب الجميلة أيضاً والتي دُمِّرَت مع بقية المناطق السورية، من الطائرات الروسية نفسها.
المشهد الحزين ذاته يتكرر، الدخان والركام والخوف والدموع نفسها تعاد أمامي، خصوصاً بعد أن رأيتُ اللاجئات من أوكرانيا يحملنَ أطفالهنَّ بحثاً عن مكانٍ آمن.
في الحروب يتشابه الضحايا، مثلما تشابهت سوريا مع أوكرانيا، في طلب الحرية والاستقلال الحقيقي ومواجهة الغزو الروسي.
لكن، الاختلاف بين سوريا وأوكرانيا يبدو كبيراً في التاريخ، إذا قارنا بين دكتاتور مستبد مكروه اسمه "بشار" استدعى القوات الروسية والمليشيات الإيرانية لتدمِّر بلاده التي ورث حكمَها عن أبيه، وبين رئيسٍ مُنتخَب بشكلٍ ديمقراطي اسمه (فولوديمير زيلينسكي) يحارب بشجاعة عن حرية بلاده.