قد يكون السوريون أبدع من غيرهم في الكتابة عن ما بات يعرف بـ"أدب السجون" لا لأنهم الوحيدين الذين تعرضوا لويلات السجون وعذباتها، بل لأنهم واجهوا أكثر الأنظمة وحشية ودموية في العالم، إذ قد يكون السجن أو المعتقل -على كل مايحويه من عذاب- في باقي البلدان وسيلة للعقاب؛ تهدف غالباً إلى تقويم سلوك السجين، أما في "سوريا الأسد" فإن التعذيب والقتل والسحل، يمثل سياسة ممنهجة اتبعها النظام منذ استيلائه على السلطة في سوريا عام 1970. لقمع كل صوت معارض له، حتى باتت أسماء السجون مثل تدمر وصيدنايا كفيلة بإثارة الرعب في نفوس السوريين لمجرد ذكر اسمها.
ولعل أصدق من يصف لنا جحيم هذه المعتقلات، الأشخاص الذين كتب لهم القدر فرصة النجاة من مقصلة الموت اليومي التي كانت تحصد أرواحهم كل يوم، في هذا الجو ومن هذه التجربة المريرة يقدم لنا الكاتب محمد برو كتابه بعنوان "ناجٍ من المقصلة"، الذي يتحدث فيها معاناته خلال 13 عشر سنة في السجن، أمضى 9 منها في سجن تدمر.
يبتعد الكاتب في سرده للأحداث والوقائع اليومية في جحيم تدمر عن التكاليف البيانية والاستعارات اللغوية، ويقدم مادته بلغة سهلة واضحة يفهمها الجميع، وكأن الكاتب أراد بذلك أن ينقل معاناة وعذابات السجناء الذين عاشوا أبشع ما عرفته البشرية من عذاب إلى كل طبقات المجتمع، باختلاف ثقافاتهم واتجاهاتهم.
يصور لنا الكاتب أحداثاً لا يمكن لعقل بشري أن يصدقها، تبدأ من اللحظة الأولى لدخول السجن: "حفل الاستقبال كان تعذيبًا مهولًا، بالسياط، والكرابيج، والجنازير، يضرب القادمون حتى يغمى عليهم، فيوقظون بصب الماء الآسن الذي يعيدهم لوعيهم، كي يذوقوا العذاب من جديد ريثما يغشى عليهم ثانيةً"، بعد ذلك ينتقل بنا الكاتب إلى وصف الحياة اليومية للسجناء، وما يكتنفها من طرق تعذيب وإجرام في الأكل والنوم والحمام، حيث يقول: "كان الطعام يأتي ثلاث مرات في اليوم، ويأتي معه الجلادون ليتباروا في ما بينهم أيهم أبدع ابتكاراً في إذلالنا، فيدخل أحدهم جزمته العسكرية المليئة بالأوساخ ومخلفات الحيوانات التي يتعمد وطأها في أوعية الطعام المخصصة لنا، ونقوم بإدخال الطعام بين ركل وضرب بالكرابيج وهم يضحكون بطريقة هستيرية"، يترافق التعذيب مع كل حركة في السجن، حتى في الحمام: "لنا يوم كل أسبوع نخرج فيه إلى الحمام للاغتسال، وعند فتح الباب، نخرج في رتل أحادي، يمسك كل واحد بكتف سابقه، ويتلقّم الأول بفمه طرف الكرباح الأسود الذي يمسكه الجلاد، وتحف بنا مجموعة مستذئبة من الجلادين الذين يستمرون بضربنا، ونحن نجري في خط ملتو من وطأة الجلد المنهمر والضرب المستمر على أجسادنا العارية”.
من يغوص في أحداث الكتاب يجزم أن من يقوم بتعذيب السجناء وقتلهم والتمثيل بجثثهم ليسوا بشراً، وهذا ما أوضح لنا الكاتب عندما تحدث عن طريقة "تدجين" العسكري منذ اليوم الأول لعمله في السجن؛ إذ يستمر ذلك فترة من الزمن حتى ينتزعوا كل شيء يمد إلى الإنسانية فيه، وهذا ما تم فعلاً عندما انهال 20 عنصراً بالضرب بالهروات والحجارة على أحد السجناء لأنه اعترض على تنفيذ أمر ما، إذ استمروا بضربه حتى تحول إلى "كومة لحم" على حد وصف الكاتب. وهذا الأمر كان يتكرر كل فترة؛ لقطع كل سبيل للرحمة أو الشفقة التي ربما كان ينتظرها السجناء.
ما يلفت النظر في الشخصيات التي يحدثنا الكاتب عنها أنها كلها من أصحاب الكفاءات العلمية والشهادات الجامعية في مختلف الاختصاصات، فمن الطب إلى الهندسة إلى الحقوق والشريعة إلى باقي الاختصاصات العلمية، وكأن النظام أراد باعتقالهم ومن ثم قتلهم القضاء على كل فكر حر متنور، وقد يكون هذا الوسط المتعلم وما يدور فيه من نقاشات هو ما خفف على السجناء شيئاً من الجحيم الذي كان يعيشونه في السجن. ويضيف الكاتب أنه مما كان يخفف عليهم أيضاً هو الشعور الإيماني بوجود عدالة في السماء كفيلة بأخذ حقهم من هؤلاء المجرمون، وكفيلة أيضاً بتعويضهم عن هذه السنوات المريرة، وقد يكون هذا السبب في جعل الموت حلماً مشتركاً لكل السجناء، حلمٌ دفع بالكاتب للتفكير بالانتحار مراراً في الأيام الأولى لدخوله جحيم تدمر، حلمٌ جعل السجناء يحسدون بعضهم عندما يتم الحكم على أحدهم بالإعدام.
"ناجٍ من المقصلة" لايتحدث فيه الكاتب عن تجربة شخصية مريرة عاشها في المعتقل فحسب، بل يوثق لنا حقبة تاريخية مهمة شكلت منعطفاً تاريخياً مفصلياً في الحياة السورية أسست بعدها لعقود من الخوف والرعب، لتتحول سوريا برمتها إلى سجن كبير، لم تحطم جدرانه وتكسر طغيان سجانيه سوى ثورة الكرامة التي تصر -رغم كل شيء- على الاستمرار لتخلص الشعب السوري من المقصلة المسلطة على أعناقهم منذ خمسة عقود.