حين قرأتُ رواية البؤساء لفيكتور هوغو.. وأنا في العاشرة من عمري؛ كنت في عُمرِ "غاف روش" ولم أتخيّل يوماً بأنّي سأعيش في "بيزانسون" المدينة التي وُلِدَ فيها هوغو.
كبرتُ أنا خمسين عاماً.. وبقي "غاف روش" طفلاً في الرواية مُتشرداً في أزقة باريس؛ ولم أكن أتخيَّلُ يوماً بأنّي سأصيرُ مُتشرّداً مثلَهُ؛ ولكن.. بين مُدُن وعَواصِمِ الدنيا؛ بسبب ديكتاتورٍ صغيرٍ في سوريا وَرِثَ الحُكم من أبيه الديكتاتور الكبير.
أنتم في أوروبا.. عَرَفتُم أيضاً مثلنَا جحيمَ الديكتاتوريات:
عرفتُم مثلاً: نابليون الثالث.. الذي كان سيعتقل فيكتور هوغو نفسه؛ ويسجنه.. لكن هوغو نجا بنفسه حين غادر باريس إلى بلجيكا؛
ثم أجبرته بلجيكا على الهجرة ثانيةً إلى جزيرةٍ بريطانيّة نائية في بحر المانش؛
ولم يستطع هوغو العودة الى بلده حتى استعاد الفرنسيون جمهوريتهم؛
وأعادوا تأسيسها ثانيةً..
بأفكار الثورة الفرنسية التي ماتَ لأجل انتصارها مئات الآلاف من الفرنسيين.
عرفتُم في أوروبا أيضاً: هتلر وموسوليني والجنرال فرانكو في إسبانيا الذي قُتل الشاعر فريديريكو غارثيا لوركا؛ كما قتلَ ديكتاتورنا زملاءَ لي: كتاباً وصحفيين وفنانين.. تحت التعذيب في أقبية مخابراته؛ أو.. تحت قصف الطيران والدبابات؛ أو.. برصاص القنّاصين.
وكما هاجر هوغو قسرياً؛ هاجر بابلو بيكاسو وسلفادور دالي من بلدهما إسبانيا؛ وهاجر برتولد بريخت من ألمانيا هرباً من القمع النازي؛ وأيضاً.. هاجرَ كثيرٌ من الكتاب والفنانين والصحفيين السوريين الى كلّ بلدٍ في العالم؛ وهُم قِلّةٌ.. قياساً لعشرة ملايين سوري تمّ اقتلاعهم من منازلهم بكلّ أنواع القصف والمجازر الجماعية؛ حيث دَمَّرَ نظامُ الأسد حتى الآن 55% من القرى والمُدن السورية بشكلٍ كامل؛ في أكبر "إبادةٍ جماعية" منذ الحرب العالمية الثانية؛ بالإضافة الى مليون قتيل سوري منذ 2011 وحتى الآن.
قال لي صديق فرنسي.. مُتعاطفاً: - الأمرُ في سوريا صعبٌ ومُعقد.
فسألته: - هل تتذكّر الجنرال فرانكو في إسبانيا؟
أجابني: - طبعاً.. لقد قتل الإسبان.
فابتسمت له: - وديكتاتور سوريا قتل السوريين أيضاً؛ ولكن ماذا كان موقفُ أوروبا والغرب من فرانكو؟!.
قال: - أعتقد بأنهً بَقِيَ في منصبه.. حتى موته.
قلت: - لأنّ أوروبا والغرب كلّه سكتوا عنه؛ كما يسكتونَ اليومَ عن ديكتاتورنا!!.
ربما لا تعرفون بلدي الأم سوريا.. ولتعرفوها جيداً؛ سأذكر لكُم ما قاله عالمُ الآثار الفرنسي الشهير وأول مُديرٍ لمتحف اللوفر:
"لكلّ شخصٍ في العالم: بَلدَان؛ بلدُه الأم.. وسوريا".
ولهذا.. سأعود بكُم الى عشرة آلاف عامٍ من الآن؛ حيث بَنَى السوريُّ الأول.. أولَ البيوت الدائرية في العالم؛ وزرع القمحَ البنيّ القاسي؛ ودَجَّن الحيوانات وشيّدَ المُدن.
ومن ساحل سوريا على البحر المتوسط.. انتقلت عبر سُفُن الفينيق: مُنتجاته التجارية؛ وكذلك الأبجدية الأولى في العالم منذ خمسة آلاف عام؛ وأولُ نوتةٍ موسيقيةٍ في العالم أيضاً؛ حتى بات البحر المتوسط بحراً فينيقياً – كنعانياً؛ كما أنّ قارّة "أوروبا" وعُملتَها المُوحدة الآن" الأورو" هو اسم أميرةٍ فينيقية سورية؛ هي ابنةُ ملك "صور" حيث تقول الأسطورة الإغريقية بأن "زيوس" كبيرُ الآلهة في جبل الأولِمب؛ قد رأى الأميرة السورية على الشاطئ مع صديقاتها فبَهَرَهُ جمالها؛ فتنكّر في جسدِ ثورٍ؛ واختطفها من الساحل السوري إلى الساحل اليونانيّ؛ حيث ما يزال أخوها "قدموس" يبحث عنها منذ 5 آلاف عام وحتى اليوم!.
سنجد أيضاً في الداخل السوري.. تمثالَ عازفةٍ على آلةٍ وتريّة في "مملكة ماري" تعود الى 5 آلاف عام؛ وتمثال "ربّة الينبوع" التي يتدفق ماء الينابيع من جَرَّة تحملها بين يديها؛ كما سنجد أولَ مكتبةٍ من "رقيمات الطين" في "مملكة إيبلا" التي بلغت 20 ألف لوح؛ ما يُعادل 20 ألف كتاب مطبوع؛ وعلى رفوف تلك المكتبة.. تمَّ اكتشافُ واحدةٍ من أقدم قصائد الحبّ في العالم:
"حبيبتي الباسقة..
أيتها المرأةُ المنقوشُ اسمُها على فؤوس المُحاربين.
عندما أحببتُكِ.. أيقنتُ أن النورَ
سيكتب على باب بيتي عباراتِ التمجيد
وسيُكتب اسمي على أذيال الشمس.
فماذا أفعل حبيبتي
لأكون جديراً بك؟.
هل أنشرُ الأبيضَ على أبواب
المدينة وأسوارها؟.
أُعاهِدُ نفسي.. ألا أُحزِنَكِ يوماً".
وقد صارت اللغةُ الآراميّة / السريانية لغةَ التجارة والثقافة والفلسفة في العالم القديم.. ولألفٍ عامٍ من برشلونة ومالطة والبندقية وحتى الهند؛ كما أنّ الآراميّة هي لغةُ سيّدنا المسيح من منطقة "الجليل" السورية؛
وبها نشر رسالتَه بين أبناء بلاد الشام "سوريا الكبرى"؛
وما تزالُ ثلاثُ قرى شمال دمشق.. تتكلّم بلغة سيّدنا المسيح وتُرتِلُ بها الأناجيلَ والأناشيدَ صباحَ كلّ يومِ أحد.
وحتى في العصر الروماني.. كانت اللاتينيةُ لغةَ المُراسلات الرسميّة بين الحُكام وقادة الجيوش فقط؛ بينما كان ينبغي على كلِّ تاجرٍ على "طريق الحرير" المُمتد من الصين حتى الساحل السوريّ؛ أن يُجِيدَ اللغةَ الآراميّةَ/ السريانيّةَ.. لتنجَحَ تجارَتُه.
لم تتنَحَ اللغة الآرامية.. سوى لابنة عمومتها: اللغة العربية؛ فصارت سوريا وحتى اليوم.. مزيجاً من ثقافتين: الثقافة الآرامية/ السريانية والثقافة العربية؛ وتشكلّت في دمشق أولُ امبراطوريةٍ عربية.. امتدت من الأندلس/ اسبانيا وحتى حدود الصين؛ حيث كان رئيسُ وزرائها: آرامياً سورياً مسيحياً؛ أمّا وزيرُ ماليّتها فهو سوري يهودي؛ وساهم الآراميون/ السريان بترجمة الفلسفة والعلوم إلى اللغة العربية؛ وفي اسبانيا.. ظهر أيضاً مزيج الثقافة السورية الأموية مع الثقافة الإيبيرية الاسبانية؛ في العمارة والتجارة والعلوم؛ وبخاصةٍ في الجانب الثقافي.. مثل قصائد الشعراء الجوّالين: التروبادور؛ وفي الفنون؛ بخاصةٍ.. في الغناء والرقص؛ كما ساهمت جامعاتُ قرطبة وغرناطة في النهضة الأوربية الحديثة؛ حيث كان طلابٌ أوروبيّون يدرسون فيها؛ كما يدرس الآنَ ابناؤنا السوريون في الجامعات الأوروبية؛ وذاك لأن الحضارةَ الإنسانيّةَ.. حلقاتٌ مُتصِلَة ساهمت وتُساهِم فيها كلّ الشعوب؛ وعلينا كبشرٍ أن نأخذ المُشترك بين ثقافات شعوبنا.. ليَعُمَّ السلامُ في الأرض؛ فلطالما اشتغلَ الأباطرةُ والملوك والرؤساء ومافيا المال على ترسيخ الخلافات القومية والدينية بين الشعوب.. ليبقى الناسُ عبيداً لهم؛ حتى لو أنهم يسكنون الآن في بيوتٍ جميلة؛ ويقودون أحدثَ السيارات!.
*- قبل تفشي جائحة كورونا طلبت منّي جمعيةٌ فرنسية أن ألقي شيئاً عنّي وعن بلدي سوريا.. في احتفالها باليوبيل الذهبي لتأسيسها؛ ثم جاء الحظر الصحيّ وتمّ إلغاء المناسبة.