في وقت تشهد فيه المنطقة تطورات متسارعة، نقلت وكالة "رويترز" عن الرئيس السوري أحمد الشرع، مساء الأربعاء الماضي، قوله إن المفاوضات الجارية مع الاحتلال الإسرائيلي للتوصل إلى اتفاق أمني "قد تؤدي إلى نتائج في الأيام المقبلة"، مؤكداً أن الاتفاق المزمع "لن يكون اتفاق سلام أو تطبيع" على غرار ما شهدته المنطقة خلال العقود الماضية، بل سيقتصر على الترتيبات الأمنية.
الشرع أوضح في حديث مع صحفيين في دمشق، قبل توجهه إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده تسعى إلى اتفاق يضمن "احترام المجال الجوي السوري ووحدة الأراضي السورية"، على أن يكون الاتفاق تحت إشراف الأمم المتحدة.
وشدد على أن الاحتلال الإسرائيلي نفذ منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024 ٬ أكثر من ألف غارة جوية، إضافة إلى ما يزيد على 400 توغل بري داخل الأراضي السورية، واصفا تلك الأفعال بأنها "خطيرة جدا" وتتعارض مع السياسة الأمريكية المعلنة التي تروج لاستقرار سوريا ووحدتها.
وأضاف الرئيس السوري أن دمشق تطالب بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي سيطرت عليها بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 بما في ذلك جبل الشيخ، بينما ترفض تل أبيب التخلي عن تلك المواقع الاستراتيجية.
ومع ذلك، لم يستبعد الشرع أن تشهد المرحلة المقبلة "اتفاقات أخرى" إذا نجحت الترتيبات الأمنية، لكنه شدد على أن "التطبيععلى شاكلة اتفاقيات أبراهام ليس مطروحاً حالياً".
وحول ملف الجولان المحتل، قال الشرع إن من "المبكر" الخوض في مصيره، واصفاً القضية بأنها "قصة كبيرة"، بينما ترفض الحكومة الإسرائيلية أي انسحاب من الهضبة التي اعترف بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كجزء من "السيادة الإسرائيلية" عام 2019. وختم الشرع بابتسامة لافتة قائلاً: "هي حالة صعبة أن تكون المفاوضات بين شامي ويهودي".
في السياق ذاته، نقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدر في وزارة الخارجية السورية أن دمشق وتل أبيب ستبرمان "اتفاقيات متتالية قبل نهاية العام الجاري"، مؤكداً أن هذه التفاهمات ستكون "أمنية وعسكرية بالدرجة الأولى".
وأوضح المصدر أن الهدف المباشر هو التوصل إلى اتفاق يوقف الغارات الإسرائيلية وينهي التوغلات العسكرية داخل الأراضي السورية، على أن يتبعه لاحقاً تفاهمات "تعود بالنفع على السوريين".
وأشر المصدر إلى أن واشنطن تضغط من أجل التوصل إلى اتفاق قبل انطلاق اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أن الشرع نفى وجود ضغوط أمريكية مباشرة، مكتفياً بالقول إن الولايات المتحدة "تلعب دور الوسيط".
ويثير هذا التطور تساؤلات ملحة حول مستقبل التطبيع في المنطقة: هل يمكن أن تحقق سوريا من هذه الاتفاقات ما لم تحققه دول عربية أخرى وقعت معاهدات تطبيع وسلام مع الاحتلال في ظل الانتهاكات وسياسة فرض الأمر الواقع؟ أم أن التجربة ستعيد إنتاج ذات الخسائر التي منيت بها مصر والأردن وفلسطين والسودان والمغرب والبحرين والإمارات؟
دول التطبيع أي مكاسب؟
كامب ديفيد
أبرز الأمثلة على محدودية المكاسب العربية من ما أطلق عليه "السلام" مع الاحتلال تجسد في اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وما تبعها من معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979.
فوفقا للاتفاق، جرى تقسيم سيناء إلى ثلاث مناطق تحد من السيادة المصرية:
المنطقة (أ): قرب قناة السويس، يُسمح لمصر بنشر قوات عسكرية كبيرة فيها، تشمل دبابات ومدفعية وصواريخ دفاع جوي.
المنطقة (ب): في وسط سيناء، يقتصر الوجود المصري فيها على قوات شرطة وحرس حدود بأسلحة خفيفة فقط.
المنطقة (ج): على الحدود مع فلسطين المحتلة وقطاع غزة، مُنع تماما نشر الجيش المصري، واقتصر الوجود على شرطة مدنية، مع انتشار قوات دولية متعددة الجنسيات (MFO).
هذا الترتيب جعل مصر محرومة من السيطرة العسكرية على حدودها الشرقية الأخطر، بما مثّل سيادة منقوصة في واحدة من أهم مناطقها الاستراتيجية.
ولم تتوقف الانتهاكات الإسرائيلية عند هذا الحد، إذ احتلت تل أبيب "محور فيلادلفيا" الحدودي، وأدخلت دبابات ومدفعية في مخالفة واضحة للاتفاق، كما سيطرت على معبر رفح من الجانب الفلسطيني عام 2024، رافعة العلم الإسرائيلي هناك، وهو ما اعتُبر تعدياً مباشراً على الاتفاقيات الأمنية.
العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في رفح، والتي شملت إدخال قوات كبيرة بحجة "الاحتياجات الأمنية"، تسببت بأزمة إنسانية واسعة للفلسطينيين٬ الأمر الذي أثار مخاوف مصرية من استهداف أمنها القومي عن طريق التهجير القسري.
وبذلك يتعارض سلوك الاحتلال الإسرائيلي في غزة مع جوهر اتفاقية السلام، ويكشف عن نوايا تهدف إلى خلق "منطقة غير قابلة للحياة" لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، وهو ما يعني تهديداً مباشراً لاستقرار مصر.
وادي عربة
اتفاقية وادي عربة عام 1994 بين الأردن والاحتلال الإسرائيلي نصت على اعتراف خاص بالدور الأردني في رعاية المقدسات الإسلامية في القدس.
لكن الاحتلال لم يحترم هذا البند، وسمح مراراً بتجاوزات واقتحامات وتدنيس للمسجد الأقصى، إلى جانب استمرار الحفريات أسفله، وتغيير الطابع الديمغرافي للمدينة عبر التهجير والاستيطان.
ووجد الأردن نفسه أمام تهديدات أخطر حين أطلق وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش تصريحات عام 2023 تحدث فيها عن الأردن باعتباره "الوطن البديل للفلسطينيين"، ما أثار موجة غضب عارمة في عمان وعمق المخاوف من مشروع يستهدف تصفية القضية الفلسطينية على حساب السيادة الأردنية.
إلى جانب ذلك، واجه الأردن مشكلات في ملف المياه، إذ لم يلتزم الاحتلال الإسرائيلي بتزويده بحصص نهر الأردن واليرموك المتفق عليها، ما أثر سلباً على الزراعة والموارد المائية الأردنية. كما استخدم الاحتلال إمدادات الغاز كأداة ضغط، إذ علقتها أكثر من مرة خلال الأزمات، وهو ما كشف هشاشة أمن الطاقة الأردني وتبعيته الاقتصادية.
أوسلو
اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عام 1993، الذي روج له كمدخل لإقامة دولة فلسطينية، أسفر عن حكم ذاتي محدود في الضفة وغزة دون سيادة حقيقية، بينما واصل الاحتلال سياسة الاستيطان والتهويد وقضم الأراضي وسرقتها بوتيرة متسارعة.
فبعد اتفاقيات أبراهام عام 2020 مثلا، أعلن الاحتلال عن خطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية، ما شكل خرقاً صارخاً للوعود التي رافقت موجة التطبيع.
اليوم وبعد ثلاثة عقود من أوسلو، لا تزال فلسطين بلا دولة، بينما تتسع رقعة المستوطنات ويُحاصر قطاع غزة براً وبحراً وجواً، في مشهد يعكس فشل رهان "السلام مقابل الأرض".
السودان
عندما أعلن السودان تطبيع علاقاته مع الاحتلال الإسرائيلي عام 2020، كان أمله رفع العقوبات الغربية وتحقيق انفراج اقتصادي. لكن ما حدث لاحقاً هو انزلاق البلاد في نزاع داخلي مدمر، فيما بقيت العقوبات والأزمات الاقتصادية قائمة، ولم يحصد السودانيون أي مكاسب من الاتفاق
المغرب.
أما المغرب، الذي وقع اتفاقا ثلاثيا مع الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي نهاية 2020، فقد رُوج له باعتباره بوابة لاعتراف أمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. ورغم أن إدارة ترامب أقرت بذلك، إلا أن الملف بقي محل جدل دولي، بينما استفاد الاحتلال من فتح مكاتب الاتصال وتعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية مع الرباط.
إبراهيم
اتفاقيات إبراهيم مع الإمارات والبحرين عام 2020 مثلت نقلة نوعية في مسار التطبيع، لكن الحصيلة النهائية أظهرت أن الفوائد الكبرى ذهبت للاقتصاد الإسرائيلي.
فبينما قفز الناتج المحلي الإسرائيلي من نحو 21.5 مليار دولار عام 1979 إلى أكثر من 370 مليار دولار عام 2018، ظلت اقتصادات الدول المطبعة تعتمد على الريع والمعونات. ولم يتحقق الازدهار الموعود في فلسطين أو البحرين أو السودان، بل على العكس تزايدت التحديات.
الأكثر لفتا أن الاحتلال نجح في التحول إلى دولة مصدرة للغاز الطبيعي من شواطئ فلسطين المحتلة، وأصبح الغاز الإسرائيلي يتدفق إلى مصر والأردن، بما منح تل أبيب ورقة ضغط استراتيجية، ورسخ تبعية اقتصادية عربية جديدة.
التجارب الممتدة من كامب ديفيد إلى أبراهام تكشف أن التطبيع لم يمنح الدول العربية سيادة كاملة ولا استقراراً مستداماً، بل أفضى إلى اختراق أمني وتبعية اقتصادية وسياسية للاحتلال.
اليوم ومع تصاعد التصريحات السورية حول إمكانية إبرام اتفاقات أمنية مع الاحتلال الإسرائيلي، يبرز السؤال مجدداً. حتى الآن لا تبدو المؤشرات مطمئنة؛ فالاحتلال الذي اعتادت على خرق الاتفاقيات والتملص من التزاماته، ما تزال يملك اليد الطولى عسكرياً واقتصادياً.