عابراً حدود اللغة والذاكرة السورية، يصدر كتاب "الخوف في منتصف حقلٍ واسع" للكاتب السوري مصطفى تاج الدين الموسى مترجمًا إلى اللغة الإنجليزية بعنوان "Fear in the Middle of a Vast Field"، عن دار "منشورات جامعة تكساس" في الولايات المتحدة.
تتضمن النسخة المترجمة 28 قصة قصيرة مختارة من مجمل أعمال الموسى القصصية السابقة، في كتاب يقع في 182 صفحة، صمم غلافه الفنان التشكيلي السوري عمر إبراهيم، وجاء بترجمة مشتركة بين الدكتورة ميساء طنجور وأليس هولتم. وقد حظيت الترجمة بإشادة واسعة، من بينها ما قالته الناقدة والمترجمة المعروفة مارشا لينكس كويلي، التي وصفت القصص بأنها "رحلة مضحكة، مظلمة، ومليئة بالمفاجآت".
ويأتي هذا الإصدار ضمن سلسلة الترجمات العالمية للأدب السوري المعاصر، حيث تُرجم الكتاب سابقاً إلى لغات عدة، من بينها الكردية، الفرنسية، اليونانية، الإيطالية، والتركية، في دليلٍ على اتساع تأثيره خارج الإطار المحلي، واستحقاقه للقراءة في سياق إنساني أوسع.
في السطور التالية، نغوص في مراجعة أدبية تسبر عوالم هذه المجموعة القصصية، التي تجمع ما بين الكثافة السردية، والسخرية السوداء، والتقاط اللحظة الإنسانية في زمن الانهيار.
حين نقرأ كتاب "الخوف في منتصف حقلٍ واسع" للكاتب السوري مصطفى تاج الدين الموسى، ندرك أننا لسنا أمام مجرد مجموعة قصصية عادية، بل أمام تجربة سردية فريدة ترصد تفاصيل الكارثة السورية من زوايا غير مألوفة، بلغة موجزة وشديدة الكثافة، وبحس تهكمي ساخر يقترب من السحر الأسود.
صدرت المجموعة باللغة العربية أول مرة عام 2015 عن "دار المتوسط" في ميلانو، ثم تُرجمت مؤخرًا إلى الإنجليزية بعنوان "Fear in the Middle of a Vast Field" عن University of Texas Press، من ترجمة ميساء طنجور وأليس هولتم، وبغلاف صمّمه الفنان السوري عمر إبراهيم. سبق وأن تُرجمت القصص كذلك إلى لغات عديدة منها الكردية، الفرنسية، اليونانية، الإيطالية، والتركية، ما يعكس صدى هذا العمل خارج السياق العربي أيضاً.
سردٌ لا يشبه إلا نفسه
الموسى يكتب القصة القصيرة جداً، ويعيد ابتكارها من جديد. في قصصه الـ99 في النسخة العربية (و28 قصة منتقاة في الترجمة الإنجليزية)، لا يتبع الكاتب البناء السردي التقليدي، بل يعتمد على ضربة فنية مكثفة، تبدأ غالبًا من منتصف الفكرة أو من نهايتها، ليترك القارئ أمام مفارقة لاذعة، أو خيبة وجودية، أو ابتسامة دامعة.
اللغة هنا ليست أداة تزويق، بل أداة تشريح. جُمل قليلة كافية لتكوين عالم متكامل، شخصيات بلا أسماء، لكنها محمّلة بدلالات عميقة. الجملة الأولى كثيرًا ما تكون "الطلقة" التي تفتح الحكاية، والجملة الأخيرة هي "السكين" التي تستقر في ذاكرة القارئ.
عن الخوف.. لكنه ليس عن الرعب
رغم أن عنوان الكتاب يشير إلى "الخوف"، فإن القصص لا تكرّس هذا الشعور بوصفه تيمة مباشرة، بل تقدّمه كحالة داخلية متغلغلة في تفاصيل الحياة اليومية. الخوف هنا ليس من السجن فقط، بل من الحب، من الوحدة، من العائلة، من الباب المغلق، ومن ضوء الشمس في مدينة تجهل الأمل.
القصص تُظهر أشكالًا متعددة لهذا الخوف: شاب يخبّئ حبيبته في دولاب خزانة لأنه لا يملك غرفة خاصة، سجين يهرب من المعتقل ليجد نفسه في معتقل أكبر، فتاة تصحو كل يوم وتكتشف أن وجهها قد تغيّر... كل قصة هي استعارة، وكل استعارة هي جرح.
الحرب في خلفية المسرح
ما يميز سرد الموسى هو أنه لا يضع الحرب السورية في الواجهة، بل يجعلها خلفية دائمة للمشهد، تلوّن كل شيء، لكنها لا تطغى على "الإنسان" نفسه. الشخصيات لا تنتمي لأيديولوجيات، ولا تمثّل طرفًا سياسيًا، بل تمثّل الخسارة المجردة، والحيرة، والتشظي.
لا بطل في هذه القصص. كل شخصياتها هامشية، ضائعة، وغالبًا عبثية. وكأن الكاتب يقول لنا: لقد خسرنا كل شيء حتى البطولة.
روح ساخرة في قلب العدم
واحدة من أكثر ميزات هذه المجموعة لفتًا للنظر هي تلك الروح الساخرة التي تنبض في قلب كل قصة. السخرية ليست تهكمًا فارغًا، بل وسيلة للدفاع النفسي، وطريقة لقول ما لا يُقال. في قصة بعنوان "عاطفية"، يقول الكاتب: "في الليل، كانت المدينة تغازل الموت بالكحل"، هذه الجملة وحدها كفيلة بتلخيص أسلوب الكتاب كله.
المفارقات كثيرة، واللامعقول هو القاعدة، لا الاستثناء. يكتب الموسى من قلب العبث السوري، لكنه لا يستسلم للبكاء أو النواح، بل يبتكر سردًا ساخرًا يحوّل الألم إلى فن، والهشاشة إلى مقاومة.
ترجمة منصفة وصدى عالمي
الترجمة الإنجليزية التي صدرت مؤخرًا حافظت على نبرة الكاتب، وبخاصة حسه الساخر ولغته المكثفة. وقد لاقى الكتاب إشادة من ناقدة ومترجمة الأدب العربي "مارشا لينكس كويلي"، التي وصفته بأنه "رحلة مضحكة، مظلمة، ومليئة بالمفاجآت"، وهي عبارة تختزل جوهر هذا العمل بدقة.
النجاح الدولي لهذه المجموعة يثبت أن الحكاية السورية قادرة على أن تتجاوز الجغرافيا، لأن الإنسان في قصص الموسى، ورغم محليته، يعبّر عن قلق وجودي مشترك.
"الخوف في منتصف حقلٍ واسع" ليس كتابًا يُقرأ، بل يُخاض. هو تجربة شعورية وفكرية موجعة، لكنها ضرورية. يضعنا مصطفى تاج الدين الموسى أمام مرآة الذات في زمن الانهيار، ويقول لنا: هذه ليست قصة وطن فقط، بل قصة بشر تقطّعت حبالهم مع المعنى، ويحاولون النجاة بالسخرية والخيال.
لمن يبحث عن أدب لا يهادن، عن نصوص تختزل المأساة السورية من دون ضجيج، وعن كتابة تقول الحقيقة بذكاء فني... فإن هذه المجموعة تستحق أن تكون على رف القراءة التالية.