عيد النوروز، بين القومي والاجتماعي كُرديّاً

إشعال نار النوروز على جبال كُردستان، بينما يتدلى منها علم كُردي كبير
إشعال نار النوروز على جبال كُردستان، بينما يتدلى منها علم كُردي كبير

يحتفل الكُرد في كل مكان، إلى جانب شعوب شرق أوسطية أُخرى، في الحادي والعشرين من آذار بعيد النوروز "اليوم الجديد". ويرتبط العيد بالنسبة للكُرد، بالإضافة إلى بداية الربيع، بمعاني التحرر والانعتاق من الظلم، بسبب ارتباطه بأسطورة البطل "كاوا الحداد"، الذي تمكن من إنقاذ الشبان الكُرد من الملك الفارسي "ازدهاك"؛ الذي كان يأمر بقتل اثنين منهم كل يوم، بناءً على نصيحة مستشاريه، ليعالج بدمائهم مرضاً أُصيب به، فلجأ "كاوا الحداد" إلى خديعة، إذ كان يقدم للملك دماء الأضاحي بدلاً من الشبان الكُرد، الذين يرسلهم إلى جبال كُردستان ويخفيهم هناك، إلى أن تمكن من قتل الملك الظالم بمطرقته، وأصدر إشارة للشبان المتواجدين على الجبال لإشعال نيران النوروز قبل حوالي 2700 عام، ليشرق نهار اليوم التالي، الـ21 من آذار، وقد تحرر الكُرد من الظلم، وعاد أبنائهم من الجبال.

يكتسب النوروز في العصر الحديث معاني إثبات الهوية، رداً على مسعى حكومات الدول التي يتواجد فيها الكُرد؛ إلى القضاء على وجودهم القومي وطمس هويتهم وإذابتهم في شعوبها، ومنع قيام دولة خاصة بالكُرد، الذين يناهز تعدادهم حسب التقديرات الأربعين مليون نسمة، ويتوزعون على أربع دول، هي حسب نسبتهم: تركيا، إيران، العراق وسوريا، هذا باستثناء العراق الذي يعيش الكُرد فيه في إقليم فدرالي، إقليم كُردستان، معترف به في الدستور العراقي، ويعيشون على قدم المساواة مع مواطنيهم الآخرون.

تعرض الكُرد في سوريا لإنكار وجودهم من قبل السلطات الحاكمة؛ منذ الاستقلال عن فرنسا، وتم منعهم من التعبير عن هويتهم القومية في أبسط أشكالها، عبر منعهم من التحدث بلغتهم وإحياء عيدهم القومي، وتم تطبيق عدة مشاريع هادفة إلى إذابتهم أو التضييق عليهم، لدفعهم إلى الهجرة إلى خارج البلاد. لكن الحادي والعشرين من آذار عام 1986 شهد تحولاً، بعد خروج تظاهرة احتجاجيّة في قلب دمشق، توجّهت مباشرة من دون تردّد إلى القصر الجمهوريّ حيث مقر رئيس النظام السابق حافظ الأسد، وذلك بعدما منعت السّلطات الاحتفال بالعيد في ضواحي العاصمة حينذاك؛ فأوقفت قوات الحرس الجمهوري التظاهرة، بأن أطلقت النّار على المشاركين فيها، ما أدى إلى مقتل الشّاب سليمان آدي، وانتهى ذلك الناهر باصدار الأسد مرسوماً جمهورياً، تلاه مذيع القناة التلفزيونية الحكوميّة الوحيدة في صدر النّشرة الإخباريّة الأخيرة؛ منتصف الليل، قبل انتهاء البثّ اليومي، عدّ بموجبه يوم 21 آذار من كلّ عام عطلة رسميّة، ولكن بمناسبة عيد الأم، وبذلك تم تغيير يوم الأم، الذي كان حتى ذلك الوقت في 13 آذار، وجرى نقله إلى 21 منه!

استمر التضييق على الكُرد خلال احتفالات عيد النوروز. أطلقت قوَّات الأمن عشية عيد النوروز 2008، ـ الذي عُرف بنوروز (المحمدون الثلاثة) النّار عشوائياً، في أكثر من مكان من مدينة القامشلي، على بعض المارّة وعلى كل من كان يقوم بالتحضير للاحتفال، ما أدى إلى مقتل ثلاثة شبّان في منطقة واحدة، يحملون جميعهم اسم محمد، وجرح آخرون نتيجة ذلك. وفي عيد نوروز الرقة 2010، تسبّب إطلاق قوات الحكومة السّوريّة النّار خلال الاحتفال خارج المدينة، بوقوع قتلى وجرحى، وجرت اعتقالات في صفوف المحتفلين الكُرد، وجرى تعذيبهم، وقد صدرت حينها أحكام جائرة بحقّهم، واستمر التضييق على الموظفين والطلاب الكُرد، بفصل بعضهم من وظائفهم ومدارسهم، على خلفية مشاركتهم بالمناسبة.

شهدت الثورة السورية تغييرات عميقة في الوضع الكُردي. في سعي منه لكسب الكُرد إلى جانبه، ظهر مسؤولون حكوميون في محافظة الحسكة في احتفالات عيد النوروز التي أعقبت بداية الثورة السوريّة، والتي رفُعت فيها الأعلام الكُردية، لا بل انتقلت الاحتفالات إلى مستويات غير مسبوقة، حيث قام الإعلام الرسمي بتغطيتها، وإذاعة الأغاني الكُرديّة لأول مرة، وظهرت مذيعات التلفزيون وهن يرتدين اللباس التقليدي الكُردي. كما احتفى الحراك الثوري السوري بالمناسبة، وعدها عيداً للسوريين، وتلقى الكُرد التهاني من المعارضة السورية. وعندما استلم حزب الاتحاد الديمقراطي المنطقة من نظام الأسد، حاول فرض هويته الحزبية عليها، وعمل على إعادتها إلى المربع الأول، فأصدرت إدارته قراراً في الثامن عشر من آذار 2017، منعت بموجبه: ((اقامة الاحتفالات والتجمعات في ليلة عيد نوروز منعاً باتاً، ومنع تجول الدراجات النارية داخل المدن من 19 إلى 23 الشهر الجاري، ومنع اطلاق الأعيرة والألعاب النارية والمفرقعات، ومنع اشعال النيران داخل المدن ليلة نوروز))، وذلك بهدف منع الكُرد من إيقاد شعلة العيد في مساء النوروز، وهو طقس يشكل جزءاً من الفعّاليات، ومنعهم من استكمال التحضيرات للاحتفال بالعيد ومن إحيائه.

رغم ظروفهم الصعبة والأخطار الجمّة التي تحدق بهم، احتفل الكُرد بعيد النوروز هذا العام بشكلٍ لافت، جرياً على عادتهم في إحيائه وعدم الغياب عنه، مهما كانت الأحوال الشخصية أو العامة سيئة، كيف لا وهم يعتبرونه رمزاً لتحدي الصعاب والتغلب على الأزمات، مستمدين الأمل من ولادة أزهار الربيع، بعد طول رعد وعواصف.