مخرج الصدفة


في الكثير من معاهد السينما المحترمة في العالم يفضلون قبول الطلاب الذين أنهوا الدراسة في اختصاص آخر قبل ان يبدأوا بدراسة مادة الإخراج ذلك لأنهم يعتقدون بأن المخرج يجب أن يكون لديه تجربة حياتية ما وحد أدنى من الثقافة التي لا بد أنه تلقاها أثناء دراسته الجامعية ولا يجوز أن تكون دراسة الاخراج كتابة على بياض لا يمتلك بعدها المخرج سوى ثقافته التقنية السينمائية (تصوير وحركة كاميرا وتقطيع الخ) وهذا في الحقيقة مهم جدا فالمخرج يجب أن يكون مثقفا حتى ولو تلقى ثقافته هذه ذاتيا ولكن عندنا هذه القاعدة مخترقة بشكل يبعث على الحزن حيث ينحدر الكثير من المخرجين من أصول (مونتاجية) أو (تصوير-إضائية) او حتى من فرقة الدبكة التابعة للتلفزيون التي تحول معظم دبيكتها الى مخرجين، وأنا هنا لا انتقص منهم اطلاقا ففي بلد لم يكن فيه معاهد ولم يكن بامكانك الحصول على العلم او الخبرة في معاهد او حتى دورات خاصة من الطبيعي ان يأتي المخرج من مجالات أخرى تعرّف خلال عمله فيها بشكل ما إلى كيفية عمل المخرج، وفي بلد مثل بلدنا يعيث فيه فسادا مخرجو ن من خلف الستائر السوداء يمكن ان يأتي إلى ساحة الاخراج مخرج من العدم بعد اتصال هاتفي بالتلفزيون أو بشركة الانتاج يطلب فيه اعطاء الفرصة لهذا الشخص او ذاك لكي يجرب حظه كمخرج ولا يستطيع لا مدير التلفزيون ولا مدير شركة الانتاج رفض طلبه وهكذا بعملية قيصرية ما يولد لدينا مخرج لا علاقة له بالاخراج ربما يتعلم بالجمهور تقنيات الاخراج المرتبطة بالأجهزة والآلات ويقدم لنا اعمال جميلة بصريا ولكنه لن يحصل اطلاقا على القاعدة الفكرية الثقافية اللازمة لتقديم أعمال تتجاوز العتبة التقنية وسنشاهد مسلسلات مشوقة تتحدث عن التاريخ بمعلومات ليس فيها معلومة واحدة صحيحة من التاريخ ببساطة لان المخرج لا يعرف ما هي المعلومات الحقيقية فهو في حياته لم يفتح كتابا في التاريخ وإذا قيض له العمل مع كاتب من شاكلته فإن المصيبة ستكون بدون حدود.

في بلد لم يكن فيه عدد المخرجين الذين حصلوا على تعليم اكاديمي يتجاوز اصابع اليدين ولم يكن عدد كتاب السيناريو الذين فعلوا ذلك اكثر من اثنين اوثلاثة عدا عن النقاد الذين يجهل معظمهم اصول النقد ولا يتجاوزون في نقدهم عتبة انطباعاتهم غير المختمرة اصلا وفي ظل هذا الظرف من غياب البنية التحتية المؤهلة لإنتاج مختصين يستطيعون تقديم عمل محترف من الطبيعي ان ياتي اشباه الموهوبين وعديمو الموهبة إلى هذا المجال لأن هناك فراغ يجب أن يتم سده في ظل نشاط مفرط في مجال الانتاج يستند الى سوق نشطة له ولكن ما يميز الانسان عن غيره من أدوات هذه المهنة هو أن تلك الادوات غير قادرة على التجدد وأنها في كل يوم تعمل فيه تخسر من أهليتها التي ستنعدم حتما بعد سنوات وتجعلها حبيسة المستودعات أو المتاحف أما المخرج فيتميز عن تلك الآلات بالقدرة على التطور عبر رفع ثقافته وتدعيم تجربته لكي يستعيض بذلك عن الخبرة الضرورية التي افتقدها بسبب عدم قدرته على الحصول على الدراسة الأكاديمية، البعض يفعلون ذلك ومع الزمن يتفوقون على اصحاب الشهادات سواء عبر العمل مع مخرجين مخضرمين أو عبر الاطلاع على تجارب الآخرين أو غير ذلك من السبل ولكن البعض مع الأسف لا يختلفون عن آلاتهم ولكن الفرق ان المنتج يستطيع تنسيق الالة ولكنه لا يستطيع تنسيقهم ولذلك سيبقون يعيثون خرابا باالأمسيات الرمصانية لشعبنا المتعوس على جميع الصعد .

واورد مثالا من تجربتي المتواضعة التي قدمت فيها لوحة قصيرة عن موظف في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش يتباهي أمام موظفة جديدة لديه سترافقه في جولة تفتيشية كيف جعل المدير الفلاني يصاب بالجلطة بعد قيامه بالتفتيس وكيف جعل آخرا يصاب بالسكري وغيره يفقد عقله إلخ من الأمثلة على سطوته وقدرته وحتى ساديته في التعامل مع الفساد، وفي الطريق أخذ يصف لها شكل السلوك الذي يتوقعه من قبل المدير الذين يتوجهون لتعذيبه وأكد أن هذا المدير سيأتي اليه مثل (التوتو) ويتوسله ويدعوه الى ولائم فخمة وسيعرض عليه رشوة مبلغا كبيرا من المال الخ، ولكن ما حصل لم يكن كذلك فحين وصلا الى الشركة المقصودة لم يتفاعل مديرها مع الموضوع وقال لهم تعاونوا مع الرقابة وافتحوا لها جميع المصنفات والملفات لكي تفتش ولم يقم بدعوة الرجل حتى الى فنجان قهوة، وبعد عدة محاولات غير مثمرة لكي يبث الرعب في قلب هذا المدير التفت موظف الرقابة والتفتيش الى مرؤوسته وأشار لها الى الباب وقال :

- فلننصرف.

- ألن تقوم بتالتفتيش؟

سالته مرؤوسته مستغربة فقال لها بأسى جعل صوته متهدجا ونبرته تعلوها الخيبة :

- لا داعي للتفتيش فهو لو لم يكن شريفا لما كان بهذه الحقارة .

وهكذا انتهى التفتيش، هذا ما كتبته في السيناريو ولكن ما شاهدته على الشاشة كان مختلفا وجعلني اكثر خيبة من المفتش فبدلا من ذلك رايت المدير الذي جاءوا لتفتيشه يترجل على الدرج ويقول للمفتش :

- فتشوا قد ما بدكن .. انا طلعت تقاعد .. متل اجري.

وهكذا قام المخرج باغتيال تلك اللوحة التي استأصال منها مفارقتها وهي بمثابة القلب الى جسد اللوحة القصيرة ولم يعرف المشاهد ما سبب عنونتها بـ (حقارة) فقد ابقى المخرج على العنوان المستقى من الجزء المحذوف من النص لجهله العلاقة بين المتن والعنوان أصلا.

ويطول الحديث .

ممدوح حمادة

د.ممدوح حمادة

كاتب وسينارسيت سوري