مصير الديكتاتور

الثورة الرومانية 1989
الثورة الرومانية 1989

معظم النظم الاستبدادية فى العالم تنتهى بكارثة، ومعظم الحكام المستبدين فى العصر الحديث انتهت حياتهم نهاية مأسوية. نظام هتلر النازى انتهى بهزيمة ألمانيا هزيمة ساحقة فى الحرب العالمية الثانية واحتلال أراضيها، وانتحار أدولف هتلر. ونظام موسولينى الفاشى فى إيطاليا انتهى كذلك بهزيمة قاسية، ومقتل بينيتو موسولينى وتعليق جثته هو وعشيقته أمام الجماهير فى ميدان عام. ونظام عبد الناصر القومى تداعى بهزيمة 1967 واحتلال سيناء وانهيار الاقتصاد المصرى، وانتهى بعد ثلاث سنوات بوفاة جمال عبد الناصر بأزمة قلبية وهو فى الثانية والخمسين من عمره. ونظام صدام حسين البعثى انتهى بالغزو الأمريكى للعراق فى سنة 2003 وتفجر الصراعات الطائفية والمذهبية فى البلاد، ومحاكمة صدام حسين وإعدامه شنقا. بعض النظم الاستبدادية تصل إلى الكارثة بسرعة وتنتهى فجأة، وبعضها يتأخر فى الوصول لهذه النهاية المحتومة. الذى يؤخر حدوث الكارثة ونهاية النظام الاستبدادى هو نجاح الديكتاتور فى تحقيق نجاح اقتصادى مبهر فى بداية حكمه، يجعل الشعب يصفح عن عيوب النظام الأخرى من قمع للحريات وسحق للمعارضين وتأليه للديكتاتور نفسه. والذى يسرع بنهاية النظام الاستبدادى هو الفشل فى النهوض بالاقتصاد، نتيجة التورط فى مشروعات عملاقة غير مدروسة، أو الاعتماد الكامل على المعونات والقروض الخارجية، أو ضعف قدرات الديكتاتور العقلية مع احساسه بالعظمة وتوهمه بأنه وحده الذى يعرف مشاكل الوطن ويعرف طرق علاجها.

كان الرئيس الرومانى نيكولاى تشاوشيسكو من أشهر طغاة القرن العشرين، والزعيم الذى لا ينازعه أحد فى رومانيا. وكان عنوان نظامه الديكتاتورى هو القهر والاستبداد، وتمثل قصته نموذجا لمصير الديكتاتور الذى حقق إنجازات ملموسة فى بداية عهده وتأخر سقوطه. ولد تشاوشيسكو فى عام 1918 فى بلدة رومانية صغيرة، وعاش طفولة بائسة اتسمت بالفقر الشديد، ثم انتقل إلى العاصمة بوخارست فى العاشرة من عمره للعمل فى أحد المصانع. وفى الأربعينات، انضم تشاوشيسكو إلى حزب العمال الاشتراكى الذى كان محظورا آنذاك فى رومانيا، مما أدى إلى سجنه ثلاثين شهرا. وفى السجن تعرف تشاوشيسكو على جيورجيو ديج، أحد القادة الثوريين، الذى قدمه لكبار القادة الشيوعيين فى البلاد. وبعد السيطرة السوفيتية على رومانيا، نجح تشاوشيكو فى الهروب من السجن. وخلال عام واحد كانت رومانيا قد خضعت للحكم الشيوعى، وبدأ تشاوشيسكو تسلق سلم السلطة مع صديقه جيورجيو ديج الذى سرعان ما أصبح الرجل الأول فى البلاد. وبعد وفاة جيورجيو ديج فى عام 1965، عين تشاوشيسكو رئيسا لرومانيا خلفا له. بدأ تشاوشيسكو فترة حكمه بمشروعات بنية تحتية عملاقة، فقد بنى أكبر عدد من مصافى البترول فى العالم، وشيد أكبر شبكة للسكك الحديدية فى البلاد، وأقام مصانع ضخمة للسيارات والشاحنات، وأنشأ محطات للطاقة الكهربائية ومفاعلات نووية، وأسس صناعات السلاح والمعدات العسكرية. وأثناء فترة حكمه، عمل تشاوشيسكو على تقوية علاقاته مع الغرب، وسافر إلى الولايات المتحدة فى عام 1969 لتهنئة الرئيس ريتشارد نيكسون بالوصول إلى الحكم، كما عمل على تقوية الروابط مع الصين. لكن سياساته الاقتصادية الخاطئة وضعت البلاد فى أزمات مالية طاحنة وفى حالة غير مسبوقة من الفقر، إذ تسببت مشروعات البناء الضخمة التى تبناها، والتى غيرت معالم جزء كبير من العاصمة بوخارست، إلى إغراق البلاد فى ديون كبيرة. كان القصر الرئاسى، الذى بناه تشاوشيسكو ليكون ثانى أضخم مبنى فى العالم بعد البنتاجون، يحتوى على ثلاثة آلاف غرفة، وسبعين صالة احتفالات، وأربعين قاعة اجتماعات، ويحوى أيضا عدة مطاعم وفنادق ومهبط للطائرات. ومن أجل سداد تلك الديون التى كانت قد بلغت عشرة مليارات دولار، أمر تشاوشيسكو بتصدير معظم الإنتاج الزراعى للبلاد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الكثير من السلع والمواد الغذائية، وجعل الشعب يعيش فى بؤس ومعاناة شديدة. وكانت النتيجة متاجر خاوية وفقرا مدقعا وغضبا عارما. 

وحتى بعد انهيار سور برلين فى عام 1989، ظل تشاوشيسكو متمسكا بخط شيوعى متشدد، وظل رغم كل الاضطرابات مقتنعا بأنه يمكنه النجاة بنظامه دون تغيير. لم يتورع تشاوشيسكو عن قهر أفراد شعبه الذين يصطفون فى طوابير طويلة أمام المتاجر لشراء احتياجاتهم، ووضع نظاما صارما لترشيد الاستهلاك يقضى بأن يحصل المواطنون على الكهرباء لبضع ساعات فى اليوم، واصدرت الحكومة قانون "التغذية العلمية" الذى يحدد كمية الغذاء الذى يحتاجه الجسم فى اليوم لكل فرد، حتى لا يتناول أكثر من ثلاثة آلاف سعر حرارى فى اليوم الواحد، واقنع المواطنين أنه إذا زادت السعرات الحرارية عن ذلك فسوف يصابون بأمراض خطيرة، وبذلك حدد القانون الحصة الرسمية من السكر لكل أسرة بنصف كيلو جرام شهريا، ومن الزيت لترين فقط. لكن تشاوشيسكو أخطأ فى تقدير قدرة الشعب الرومانى على الاحتمال، فى ظل ما كان يتردد عن حياة البذخ والرفاهية التى يعيشها الرئيس وحاشيته، فى مقابل التقشف الذى لا يسرى إلا على الطبقات الفقيرة من الشعب. ونتيجة لهذه السياسات الاقتصادية الخاطئة، إضافة إلى قمعه الشديد لمعارضيه واعتقاله للشباب فى السجون، قامت احتجاجات شعبية عارمة فى مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بالاصلاح، ولجأ تشاوشيسكو إلى الأسلوب الذى يفضله الطغاة دائما مع شعوبهم: استخدام العنف والقوة المسلحة. لكن الجيش تصدى لخططه تحت ضغط تصاعد الغضب الشعبى لسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى. 

وعندما وصلت الاحتجاجات إلى القصر الرئاسى، حاول تشاوشيسكو الهرب مع زوجته إلينا، لكن الشرطة العسكرية تمكنت من القبض عليهما فى 22 ديسمبر 1989. وبعد ثلاثة أيام، قدم تشاوشيسكو إلى محاكمة استثنائية عاجلة لم تتجاوز مدتها ساعتين، أمام قضاة عسكريين، مثل المحاكم الصورية التى كان يعقدها لمعارضية، فذاق من نفس الكأس، وحكم عليه هو وزوجته بالموت، بتهم ارتكاب جرائم ضد الدولة والإبادة الجماعية وتدمير الاقتصاد الرومانى. وفى يوم المحاكمة نفسه، 25 ديسمبر 1989، اقتيد مع زوجته معصوبى الأعين إلى أحد معسكرات الجيش الرومانى خارج العاصمة بوخارست، وأعدما رميا بالرصاص أمام عدسات المصورين. 

قصة تشاوشيسكو ومصيره الدامى، قد تدفع أى حاكم مستبد فى أى زمان ومكان إلى أن يراجع نفسه، لو درس مصير هذا الديكتاتور جيدا وتأمل كيف عاش ومات من رجل يملك الأرض ومن عليها، إلى رجل لم يتمكن من الهرب مع زوجته فسقط فى قبضة الثوار الغاضبين، فلا قصر حماه ولا جيش أنقذه، فقط محاكمة سريعة وطلقات أسرع ورحيل عاصف.


(نوفمبر 2016)

د.جلال الشايب

كاتب مصري وكاريكاتيريست 

دكتور في الفنون الجميلة