عندما يصبح الموت رقما

عندما يضبح الموت رقما
عندما يضبح الموت رقما

 

أرق الموت الإنسان منذ وجوده على هذا الكوكب، إذ رفض عقله تقبله كنهاية محتومة على كل إنسان. فالمنطق اليوناني قالها ضمن النهج الاستقرائي: "كل إنسان فان، سقراط انسان، سقراط فان". والقرآن أكد أن لا مفر من حتمية الموت" أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، "كل نفس ذائقة الموت". وأقامت أقوام عديدة طقوسا مختلفة للموت، كتحنيط الجثث لدى الفراعنة، أو دفن مقتنيات المتوفي مع جثته ليجدها إذا عاد للحياة.. وأقيمت الجنائز، والأضرحة، والقبور، وسواها. فرهبة الموت جعلت الإنسان يعظم المتوفي ويحيطه بالإجلال والاحترام. لكن الانسان في الوقت ذاته جعل من الموت وسيلة للسيطرة على الآخر عبر قتله من خلال الحروب، فقتلى الحروب قلما يكترث بهم أحد كما قال جوزيف ستالين مقولته الشهيرة: " قتل شخص يعتبر جريمة، قتل مليون شخص إحصاء"، وهذا ينطبق على موتى الجائحات، والأوبئة عندما تتعاظم أعداد الموتى، عندما يصبح الموت رقما. فحروب أوربا العالمية التي تسببت في مقتل عشرات الملايين ذكرتهم الدول المتحاربة كأرقام إحصائية، وهذا ما أكدته الأمم المتحدة في الجرائم التي ارتكبت بحق السوريين "فعداد" الأمم المتحدة توقف عند الرقم 250،000 قتيل، أما مئات آلاف القتلى الذين قتلوا بعد هذا الرقم تم تجاهلهم تماما حتى تضاربت الأرقام وشكك في بعضها. مع جائحة كورونا كسابقاتها من الكوليرا، والطاعون، والإيدز، والإيبولا وسواها التي قضت على الملايين بات الموت مجرد إحصاء، تطالع يوميا الصحف: في البلد الفلاني مات كذا وكذا من مرضى كوفيد، ولا يذكر اسم شخص من المتوفين إلا إذا علا شأنه، بل إن دولا فتحت مقابر جماعية وردمت الموتى سريعا حتى دون حضور أهاليهم. فالموت فقد هيبته ورهبته. بل إن الخوف من الموت بالعدوى جعل بعض العائلات يهربون من مرضاهم..لكن لكل قاعدة استثناء، والاستثناء هذه المرة جاء من بريطانيا إذ أُطلقت حملة لإقامة نصب تذكاري داخل كاتدرائية القديس بولس في لندن لتخليد ضحايا وباء كورونا. هذه الحملة جاءت كرفض لجعل الموت رقما مبتذلا فهي تأمل "في توحيد سكان المملكة ممن يشعرون بالحزن على وفاة العائلة لإحياء ذكرى من ماتوا متأثرين بإصابتهم بفيروس كورونا المستجد، وهذه اللفتة الإنسانية جاءت تحت مسمى:"تذكرني"، ولا شك أن هذا النصب التذكاري الذي يشبه إلى حد بعيد نصب" الجندي المجهول" الذي تقيمه كل الدول لذكرى قتلى الحروب، سيدفع الدول الأخرى لتحذو حذو بريطانيا ليبقى ذكرى لمصاب عالمي ربما كان أخطر من الحروب التي عرفها الانسان وحرض عليها من أن مشى على هذه الأرض.